أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: الحمد لله الممدوح بصفاته وأسمائه، المشكور على نعمه وآلائه.. بعدله وقيام حجته شقي الكافرون، وبإحسانه وكرمه أفلح المؤمنون.. وأشهد أنه لا إله يعبد بحق سواه؛ لأنه المتفرِّد بالجلال والكمال، وكل موجود سواه فربنا خالقه ومولاه.. وإنَّما وُجِدَ الكون بقدرة ربنا وفَقْاً لإرادته، وحكمته، وجرت سننه ونواميسه بإحاطة ربنا وقيوميته، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (سورة فاطر/ 41).. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى طاعة ربه، المبشر بجنته، الناهي عن عصيان خالقه، المخوف من عذابه وسطوته.. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد أيها الأحباب: فإن ربكم أوحى إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأخبار القيامة وأحوالها، وأخبار النار وأهوالها، ونعيم الجنة وحللها وسلسبيلها.. ومع ذلك قال له ربه سبحانه وتعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} (سورة الغاشية/1)؛ وهو قد أتاه حديثها؛ ليزيده خبراً وتأكيداً على ما أسلف إليه من علم.. والمراد بالغاشية هنا يوم القيامة وإنْ كانت النار في غير هذا الموضع تسمى غاشية كما في قوله سبحانه وتعالى عن الكفار: {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ} (سورة إبراهيم/ 50).. وكانت الغاشية بمعنى القيامة في سورة الغاشية؛ لأنَّ الله بيَّن أحوال الناس فيها: من وجوه خاشعة مآلها إلى النار، ووجوه ناعمة مآلها الجنة دار الأبرار.. وكانت القيامة غاشية؛ لأنها تغشى الناس؛ أي تُجلِّلهم وتحيط بهم بأهوالها. قال أبو عبدالرحمن: واعلموا أيها الأحباب: أن الله وصف وجوه أهل النار بالخشوع والعمل والنصب وهو التعب؛ فلا يراد بذلك أنها كانت عاملة في الدنيا بتعب مآله إلى النار كعمل الخاسرين الكافرين الذي أسلفوه في الدنيا، وإن كان هذا حقاً في ذاته بغير دلالة السورة الكريمة؛ وإنما المراد عملهم في الآخرة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ}؛ أي يوم غشيان الغاشية، وهو غشيان يوم القيامة.. وكل وصف للوجوه يومئذ فهو وصف لها يوم القيامة إلى حين تخليدها في النار؛ فلا يجوز دعوى أن وصف العاملة وحده خاص بالدنيا دون برهان على الخصوص.. والقرآن الكريم يُفسِر بعضه ببعض؛ فلقد بيَّن الله معنى خشوعها وعملها ونصبها يوم القيامة؛ فقال الله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (سورة آل عمران/ 106)، وبين ربنا في سورة الكهف أن الكفار يغاثون بماء يشوي الوجوه، وقال الله عن الكفار لما رأوا في يوم القيامة قرب وعد الله لهم بالنار: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ} (سورة الملك/ 27)، وقال عن الكفار يوم القيامة أيضاً: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} (سورة القيامة/ 24)؛ أي كالحة عابسة متغيرة اللون، كما ذكر سبحانه وتعالى غبرة وجوههم وسوادها بقوله: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} (سورة عبس/ 40 - 41).. وقال سبحانه وتعالى: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا} (سورة يونس/ 27).. وقال سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} (سورة الزمر/ 60)، وقال الله سبحانه وتعالى: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} (سورة المؤمنون/ 104)؛ وهم يسحبون في النار على وجوههم كما قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} (سورة القمر/ 47-48).. وقال الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا} (سورة الفرقان/ 34)، وصحَّ عن أنس رضي الله عنه أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله: كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال: إنَّ الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادر أن يمشيه على وجهه يوم القيامة.. وقال الله سبحانه وتعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} (سورة الإسراء / 97).. وقال الله سبحانه وتعالى: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} (سورة العلق/15).. وعند الإلقاء في النار يؤخد بالنواصي والأقدام كما في سورة الرحمن.
أيها الأحباب: هذه قصة وجوه أهل النار في يوم القيامة.. قصة سواد وشيٍّ وسوء وبسور وغبرة وقترة وظلام وكلوح وسفع وسحب؛ فهذا معنى عمل الوجوه ونصبها؛ فتبين أنَّ المراد عمل الوجوه القسري في يوم القيامة، وليس المراد في هذه السورة بالذات عمل أصحاب الوجوه الخاسرة في الدنيا.. وأما خشوع الوجوه يوم القيامة فعام للمؤمنين والكافرين لقوله سبحانه وتعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} (سورة طه/ 111)؛ فَعُنُوُّها خضوعها وخشوعها.. وكيف لا تخشع وجوه الكافرين يوم القيامة وهو يوم لا مفر فيه ولا مهرب؛ لأنَّ الملك يومئذ لله وحده، ولأنهم يُدَعُّون إلى النار دعاً؛ أي دفعاً شديداً، وما هم عنها بغائبين.. ثم اعلموا أن العين الآنية التي يُسقى منها الكافرون عين بلغت الغاية من شدة الحرارة؛ لأنَّ الإنَى بمعنى الوقت، وفعل أنى بمعنى بلغ نهاية وقته.. واعلموا أنَّ الضريع الذي يأكله أهل النار ولا يسمن ولا يغني من جوع هو شجر الشِّبرق، وهو شوك إذا يبس سمي ضريعاً، ولا ترعاه دابة.. قال أبو ذؤيب الهذلي:
رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى
وعاد ضريعاً بان عنه التحايصُ
قال أبو عبدالرحمن: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (سورة البقرة/ 200 - 201)، أقول قولي هذا مؤيداً بالذكر الحكيم، وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم؛ وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.
كتبه لكم:
محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل - عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -