دودة..! ماذا تقول؟ أي دود يا معفّن؟
- دود لهذا الفخّ. وما الذي أدخلك بهذه الخرابة؟
- أبي قلت لك أبحث عن دود.
- أستغفر الله العظيم!! يكاد يُجن عبيد إذ صادف ابنه المراهق فادي خارجًا من دار مهجورة خربة، وبيده علبة ماء صغيرة فارغة إلا من ديدان محشورة بهذه العلبة.. أي فخّ هذا الذي تقول؟
- اشتريت هذا الفخ لصيد الطيور، وأخبرني صديقي بضرورة وضع دودة فيه كي تأتي العصافير لتأكلها ويصيدها الفخ.. هل اقتنعت يا أبي؟
- طيب هل كان معك في هذه الخرابة؟ صديقي عوّاد.
- كم عمره؟ أكبر مني بسنة لكن يدرس معي بنفس الصف.
- وغيره؟ ثلاث أولاد كانوا قبلنا وبعدما وصلنا غادروا.
- لعن الله... لم يتحمّل عبيد هذه التفاصيل وهذا الخطر المحدق بابنه المراهق الوحيد، فأراد وهو رئيس البلدية أن يضع حداً لهذا الخطر ويقتلعه من جذوره.
عاد بابنه إلى المنزل بعد أن أتلف الفخّ وتخلّص من العلبة القذرة بمحتوياتها، وبدأت اتصالاته.. مرّر خطة إزالة جميع المباني المهجورة في المدينة دون اعتراض يُذكر إلا من شخصٍ واحد عبّر عن خشيته من اعتراض بعض المواطنين، إلا أنهم لم يتوقفوا عند تلك الفرضيات، وتمّ اعتمادها خلال جلسة واحدة.. تحت عنوان تجميل المدينة.. وما فائدة تلك الخرائب ومدينتنا تقع على بحيرة طبيعية رائعة؟
أصدرت البلدية تعميداً سريعاً لأحد مقاولي الهدم بإزالة جميع المباني القديمة المهجورة، وتسويتها بالأرض، ونقل مخلفاتها خارج المدينة.
لم يكن لدى المقاول أدنى معرفة بالقيمة التراثية لبعض المباني القديمة، ولا جرت محاولة البحث في محتوياتها من أدوات أو أثاث قديم، ولا حتى تصويرها قبل الهدم والإزالة، وهذا لم يكن مستغرباً من رجل لا ينتمي لهذه الأرض، ولا تعنيه هذه القيم، فرئيس البلدية قبله لم تخطر على باله أيضاً، بل إن مساعد رئيس البلدية أكمل النقص في تلك الملهاة والعبث، فقبل تسليم المقاول تعميد العملية، اشترط عليه أن يكرّم البلدية بهدية أو مشروع صغير مجاناً، فهذه سياسة البلدية.. كما يقول.. مع كل مشروع منحة أو إكرامية يقدمها المتعهد أو المقاول الذي يفوز بالعملية.
لم يمانع المقاول، مع الرجاء بألا تكون مكلفة وتذهب بأرباح العملية كلها، طمأنه المساعد بالقول: بالعكس ستستفيد منها وتوفر عليك تكاليف العمل الأساسي.
- كيف ذلك؟ لدينا آبار مياه قديمة مهجورة في عدة أحياء، وبدل نقل المخلفات بعيدًا، فلتقم بردمها بأنقاض ومخلفات تلك المباني، وبذلك ستوفر تكاليف النقل خارج المدينة ونحن نستفيد، نصيد عصفورين برمية واحدة.
فرح المقاول ورئيس البلدية بهذا الطلب، وأطلقا على العملية بزهو (صيد العصافير)، أضاف الرئيس.. ابدأ بالزرانيق واختم بأحجار المقام..
ستطمس معالم أخرى ومآثر قديمة لجهود هائلة بذلها الآباء والأجداد عبر مئات الأعوام.. ما هذا العبث؟!! تتساءل إحدى العجائز وهي تنظر من نافذة بيت ابنها المجاور لأحد المواقع المستهدفة بعد أن شاعت الخطة.
انطلقت الآليات بجرف كل ما أمامها، دون رحمة، ودون إدراك لجناية العمل، كل همهم تقديم تقرير يومي بالكميات المزالة لرئيس البلدية الحريص على ابنه والعصافير من أفخاخ الشباب.
تمت الإزالة بأقل من شهر، ولَم تعُد لهذه البلدة أية ذاكرة عمرانية تميزها عن غيرها.. مجرّد مدينة تطل على بحيرة أمست حزينة.. بعد أن طمست هويتها للأبد.. لم تتعثر العملية ولم تتأخر لتوفر السيولة، إذ استخدمت بعض اعتمادات الصيانة للإنفاق عليها.
أين صاحبنا الرعديد؟ يسأل رئيس البلدية.. هل سمعتم اعتراضاً أو احتجاجاً من أحد؟ هل نُشرت تساؤلات أو نقد بأي صحيفة؟ ويضيف ساخرًا.. لديك نزعة لتعطيل مشاريع التنمية.. ويعتذر المسكين.. ويعترف بجهله وجبنه..
عندي خبر.. يردّ الأستاذ عبيد على الاعتذار.. وهكذا تحولت الأعمال التخريبية إلى إنجازات!!
لكن مشاعر فادي كانت مهمة لوالده، وما استطاع مقاومة رغبة ابنه في صيد العصافير، فتذكر أن العصافير كثيرة وتتحمل، فأرسل مندوباً يسافر للعاصمة ليشتري نبّاطة خشبية فاخرة، وأخرى معدنية بمقاس يناسب قبضة يد فادي الناعمة، مع عدد من علب الكرات المعدنية الصغيرة بديلاً عن الحصى المتسخ، والذي قد يلوث الطرائد والعصافير التي سيصيدها فادي.
لم يقصّر المندوب، إذ رأى أن قطعتين فقط لا تلائمان مقام رئيس البلدية، فبحث عن نوعيات جديدة ومتنوعة، وقدّر أيضاً بنباهة بدل الفاقد والتالف، فأحضر حقيبة تزيد محتوياتها على عشرين قطعة، قدمها باعتذار شديد، لأن هذا كل ما وجده في أشهر محلات الألعاب هناك، وزاد أنه بحث حتى في محلات القنص والرماية.
لكن لسوء الحظ أن مهارة الابن لم تتطور ولم يستطع صيد عصفور واحد بكل الأنواع الخشبية والمعدنية والبلاستيكية، وكل مهارته تجلّت في إتلاف مصابيح الإضاءة بالشارع المجاور للمنزل، لكن عمال البلدية ومقاول الصيانة لم يقصروا في الإسراع بإصلاح الأضرار كل يوم وقبل غياب الشمس، لأن فادي يخشى الظلام في عودته للمنزل من الحديقة المجاورة، رغم أنه يركب دراجة مزوّدة بعدة مصابيح قوية.
ويترّقى عبيد فيحتفل موظفو البلدية ومقاولوها بهذه المناسبة، ويرتّب أحدهم لقاءً صحفياً مع سعادته لاستعراض أهم الخدمات والإنجازات التي قدمها لهذه المدينة طيلة خدماته كمسؤول كبير في أهم القطاعات الحضرية والتنموية، فيتباهى بتلك الخطة التي تم تنفيذها خلال مدة وجيزة وبأقل التكاليف.
ويصل الخبر لهيئة الآثار.. وتعددت الأقاويل.. هل تمت ترقيته أم نقله للاستفادة من خبراته في مناطق أخرى وبعضهم يقسم أنه أودع السجن.. لا أحد يعلم حتى الآن، لكنهم يذكرونه بخير، فقد كان يصلي مع الجماعة في المسجد كل الفروض.
** **
- عقل الضميري