أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
- 1 -
ما دامت بواعث القِيَم ساميةً في النفس البَشريَّة، فقد كان المفترض فيها أن تكون مشتركةً بين الناس. غير أن حواجز المجتمعات، ومن ثَمَّ حواجز الثقافات، قد أفرزت التمايز بين أهل كلِّ مجتمعٍ وثقافةٍ وأهل كلِّ مجتمعٍ وثقافةٍ آخَرين. بل لقد أدَّى العزل الاجتماعيُّ إلى التمايز داخل المجتمع الواحد نفسه، كأنْ تكون هناك قيمةٌ مرتبطةٌ بالذُّكور دون الإناث، أو بالعكس. فهل القيمة مرتبطةٌ بجنسٍ دون آخر؟ الأصل أن لا يكون ذلك كذلك. لكن الواقع يدلُّ على هذا التمييز بين مجتمع الرجال ومجتمع الإناث. فقيمة كـ(الشَّجاعة)، مثلًا، ترتبط في المجتمع العربيِّ بالرَّجل؛ حتى إنَّ هذه الصفة لا توصف بها المرأة.(1) وتوشك حين تقترن بالمرأة، في لسان العَرَب، أن تشير إلى قيمةٍ سلبيةٍ من قِلَّة الأدب (مع الرجال). ويمكن أن يقال نقيض هذا عن قِيَم أخرى أكثر ارتباطًا بالمرأة، مثل قيمة (الحياء). حتى كانت الفتاة مضرب المثل في الحياء؛ فجاء في أمثال العرب: «أَحْيَا من بِكْر»، و«أَحْيَا من فتاة»، و«أَحْيَا من كَعاب»، و»أَحْيَا من مُخَدَّرة»، و«أَحْيَا من هَدْيٍ»، و«أَحْيَا من مُخَبَّأة».(2)
وهكذا فإن القِيَمَ لا تتأثَّر، في النظرة إليها في المجتمع العَرَبيِّ، بعوامل الفطرة والطبيعة فحسب، وإنَّما تتأثَّر كذلك بالنظرة الجذريَّة إلى قِيَم الذُّكورة والأُنوثة. ويتَّضح ذلك بالنظر إلى كثيرٍ من القِيَم كقيمة (طلب العِلْم). فقد بدا العِلْم أكثر اقترانًا بمجتمع الرجال منه بمجتمع النساء، حتى لا نكاد نجد صفة «عالمة» في تراثنا العَرَبيِّ إلَّا نادرًا، مع وجودهن. فضلًا عن أنَّ تعليم المرأة، في ذاته، كان يُنظَر إليه بارتياب، وإنْ بدرجاتٍ متفاوتة، على مدَى التاريخ العَرَبي، وكأنَّما الرجال يخشون على أنفسهم من اقتراب المرأة إلى «شجرة المعرفة» الفردوسيَّة. حتى لقد أتحفنا (الجاحظ، -255هـ= 868م) (3) - وهو من هو في الثقافة التراثيَّة - بقوله: «كان يُقال: لا تعلِّموا بناتكم الكتاب[ـة]، ولا تروُّوْهُنَّ الشِّعْرَ، وعلِّموهنَّ القرآن، ومن القرآن سُورةَ النُّور». فحتَّى «القرآن» لا ينبغي - وفق تلك الأعراف الجاحظيَّة - أن تتعلَّمَه المرأة كاملًا؛ لأنَّ سُوَرَهُ لا تخلو من محظورات على المرأة! ولذلك نهض (العِلم)، في التراث العربي، قيمةً معياريَّةً ذكوريَّةً، إزاء قيمة (الجَمال) الأُنثويَّة. وكأنَّ وجود إحدى هاتين القيمتين يعكِّر في المخيال العَرَبيِّ صَفْوَ وجود الأخرى؛ فالمرأة المثاليَّة هي المرأة الجميلة، وإنْ لم تكن عالمةً أو متعلِّمة، بل ربما ازدادتْ قيمةُ الجَمال في المرأة لجهلها، وعِـيِّها، وضعفها اللغويِّ والبيانيِّ، على حدِّ قول (مالك بن أسماء بن خارجة الفزاري)(4):
منطقٌ رائعٌ، وتَلْحنُ أحيا [ م ]
نًا، وخيرُ الحديث ما كان لَـحْـنَا
أو قول (عمر بن أبي ربيعة) (5):
فما اسْتَجْمَلَتْ نفسي حديثًا لغيرِها
وإنْ كان لَـحْنًا ما تُحَدِّثُنا خلْفا
على حين يُعَدُّ اللَّحن عيبًا ممقوتًا في الرِّجال، دالًّا على الجهل والعِيِّ، وانحطاط الطبقة أو الأصل.
وإذا كانت (الحُرِّيَّة) - كما يُعرِّفها المفكِّرون الاجتماعيُّون - هي مَلَكةٌ خاصَّةٌ تميِّز الإنسان - من حيث هو مخلوقٌ عاقلٌ يَصْدُر في أفعاله عن إرادته هو، في اختيار فِعلٍ أو استطاعة اختيار ضِدّه، لا عن أيَّة إرادةٍ أخرى(6) - فإن في مفهوم الحُرِّيَّة من العموميَّة وتعدُّد النظر إليها ما يتيح فيها، مثل ما أُتيح في قيمة (الحياء)، من خضوعٍ لتحويراتٍ تتساوق وتوجُّه الثقافة في عصرٍ من العصور أو مجتمعٍ من المجتمعات.
- 2 -
أمَّا القول إنَّ المرأة العَرَبيَّة قد عَرفتْ في بعض تاريخها القديم حُرِّيَّةً، بل مكانةً في الحُكْم والمشاركة السياسيَّة، ومن ثَمَّ الإشارة النمطيَّة إلى نماذج، مثل (بلقيس)، و(الزبَّاء بنت عمرو)، وملكات (الأنباط)، وملكات (كِنْدة)، كـ(العمرَّدة بنت الأعشى)، أو الإشارة إلى (هِند) زوجة (المنذر بن ماء السماء)، و(حُرقة بنت النعمان بن المنذر)، و(حليمة بنت الحارث بن جبلة الغسانيَّة)، فشواهد تدلُّ على الاستثناء، الدالِّ بدَوره على تحوُّل هذه القِيمة في المجتمع العَرَبي، إلى أن باتت صِفة «الحُرِّيَّة» في المرأة تعني: «عدم الحُرِّيَّة». حتى إنَّ مصطلحًا كمصطلح «تمكين المرأة»، الذي يتردَّد في أيَّامنا، لا يخلو بدَوره من «فيروس» ذلك الإرث العتيق؛ ليقول: إنَّ مكانة المرأة إنما جاءت مِنحةً، وتمكينًا، وبقُدرة قادر، وليست بحقٍّ طبيعيٍّ أصلًا!
- 3 -
وكذا القول عن قيمة (الغَيرة)، إذ اقترنتْ قيمةً بالرجال في مواقفهم من النساء أو في غَيرتهم عليهنَّ. حتى قالوا في حِكَمهم: «كُلُّ شيءٍ مَهَهٌ، ما خلا النِّساءَ وذِكْرَهُنّ»، «أي كلُّ شيء جميلٌ ذِكْرُهُ إلَّا ذِكْرَ النِّساء» (7). وجاء في أمثالهم: «أغيرُ من الفَحْل»، و«من جَمَل»، و«من دِيْك»(8). ولولا غَيرة الرجال على النِّساء لما قال (أبو العلاء المعرِّي)(9)، المنعوت بـ«فيلسوف الشعراء، وشاعر الفلاسفة!»:
وإنْ تُعْطَ الإناثَ، فأيُّ بُؤْسٍ
تَبَيَّنَ في وُجُوْهِ مُقَسَّـماتِ!
يُرِدْنَ بُعولةً ويُردْنَ حَـلـْيًا
ويَلقينَ الخُطوبَ مُلوَّمـاتِ
ولَسْـنَ بدافعاتٍ يومَ حَـربٍ
ولا في غارةٍ متَغَـشِّمـاتِ
ودَفْـنٌ والحوادثُ مُفْجِعـَاتٌ
لإحداهنَّ إحْدَى المَكْرُمـاتِ!
وقد يَفقدنَ أزواجًا كِرامًا
فيا للنِّسـوةِ المتأيـِّمـاتِ
يَلِدْنَ أعـاديًا ويكُـنَّ عـارًا
إذا أَمسينَ في المتهضَّماتِ
و»فيلسوف الشعراء، وشاعر الفلاسفة» هذا إنَّما يحذو حذو أسلافه، ويأخذ عنهم، ومنهم (البحتري)، الذي وضع عنه كتابه «عبث الوليد». وهنا نأتي إلى نموذج هذه المقاربة الأوَّل، وهو (البحتري). وحديثنا عنه في الأسبوع المقبل(10).
... ... ... ...
(1) انظر: ابن فارس، (1952)، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام هارون، (القاهرة: دار إحياء الكتب)، 3: 247 (شجع).
(2) الزمخشري، (1987)، المستقصى في أمثال العرب، (بيروت: دار الكتب العلمية)، 1: 90- 91.
(3) (1975)، البيان والتبيين، تحقيق: عبد السلام محمّد هارون، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 2: 180.
(4) ابن منظور، لسان العَرَب، (لحن).
(5) ابن أبي ربيعة، عمر، (1992)، ديوان عمر بن أبي ربيعة، عناية: فايز محمد، (بيروت: دار الكتاب العربي)، ص229: 3.
(6) انظر: إبراهيم، زكريا، (1972)، مشكلة الحُرِّيَّة، (القاهرة: مكتبة مصر)، 18.
(7) الميداني، (1955)، مجمع الأمثال، تحقيق: محمَّد محيي الدين عبد الحميد، (مصر: مطبعة السنّة المحمَّديَّة)، 2: 132.
(8) م.ن.، 2: 66.
(9) (1342هـ)، اللُّزوميَّات، تحقيق: أمين الخانجي، (بيروت: مكتبة الهلال، القاهرة: مكتبة الخانجي)، 1: 178.
(10) هذا المقال جزء أوَّل من ورقة بحث قُدِّمت في (الصالون الثقافي بنادي جدة الأدبي الثقافي)، مساء الأحد 28 فبراير 2021. للمشاهدة على موقع «اليوتيوب»: https://youtu.be/oIxP87fdTqA