احمد العلولا
إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولن أقول إلا ما يُرضي ربنا {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}. في اليوم الثاني من شهر الصيام ودع الدار العاجلة قاصدًا الدار الآخرة ذلك الإنسان ذو القامة الشامخة، مخلفًا سيرة عطرة تدون صفحاتها بماء الذهب، ذلكم هو أحد رجالات الدولة ورموزها المخلصين للدين ثم الملك والوطن، القائد الفذ الشهم، اللواء ركن/ محمد بن راشد البريكان قائد استخبارات أمن القوات البرية.
أبو أحمد المولود سنة 1362 هجرية في الخبراء، تلك الواحة الخضراء الجميلة في منطقة القصيم، يعتبر واحدًا من جيل الرواد الذين سارعوا في الانتماء بعد حصولهم على الشهادة الابتدائية والانخراط في السلك العسكري من بوابة المدرسة العسكرية بالخبراء، ثم واصل تفوقه ليتخرج برتبه ملازم من كلية الملك عبد العزيز الحربية، لتبدأ معه رحلة التنقل والتجوال من مدينة إلى مدينة في مختلف مناطق المملكة، وليكتسب المزيد من التجارب والخبرات التي ساهمت في صقل شخصيته حتى حط رحاله واستقر به المقام في العاصمة الرياض برتبة لواء ركن.
حدثني مدير مكتب اللواء الفقيد الأستاذ/ حمدان بن سعد الحارثي بكلمات تغمرها مشاعر الأسى والحزن.. يقول: ماذا عساي أن أقول عن أبي أحمد وقد عشت معه قرابة عشر سنوات، أعتبرها من أجمل سنوات عمري. كان -رحمه الله- قائدًا عسكريًا من فئة (السهل الممتنع)، شعاره الذي لا يحيد عنه قيد أنملة (الدقة والانضباط)، ولم يكن يرضى بغير ذلك بديلاً. على الجانب الآخر، كان الإنسان المتواضع المحب لعمل الخير، وتقديم يد العون والمساعدة لكل محتاج يطرق بابه، سواء كان يعرفه من قبل أو لا يعرفه.
ويمضي الحارثي قائلاً: شهدت موقفاً لن أنساه ما دمت حياً. بعد صدور قرار إحالة الفقيد أبي أحمد إلى التقاعد كان اللقاء غير العادي مع سلطان الخير والإنسانية، سلطان بن عبد العزيز -طيب الله ثراه-. قال البريكان (تشرفت بالسلام على سموكم الكريم عند ترقيتي لرتبة ملازم أول، وقد غمرتني بكلمة أبوية حانية تشجعني فيها على الإخلاص بالعمل والبذل والتضحية، واليوم أتشرف مرة أخرى بالسلام مودعاً). فما كان من الأمير سلطان بعفوية تامة إلا أن بادر بضمه إلى صدره مشيدًا بما قدمه من خدمة جليلة لمليكه ووطنه قائلاً بكل مشاعر رقيقة (تو ما زاد غلاك عندي يا محمد البريكان).
منذ يومين وصلني مقطع مؤثر مصور في سريلانكا من داخل مسجد كانت تقام فيه صلاة الغائب على روح الفقيد البريكان، وذلك في اليوم الذي صُلي عليه فيه في بلدته الخبراء. سألت شقيقه (منصور) رفيق دربه وجليسه طوال سنوات مرضه عن المقطع المصور، فأجابني بنبرة حزينة: كنت مرافقاً للفقيد في جولة سياحية داخل سريلانكا، وهناك في منطقة ذات كثافة مسلمة أدرك أنها بحاجة لمسجد وبئر ماء صالحة للشرب، فنفّذ المشروع بسرية تامة، ولم يكن أحد يعلم بذلك غيري، وما إن علم إمام المسجد بوفاته حتى قرر إقامة صلاة الغائب ترحمًا عليه.
بعد تقاعد البريكان من عمله قرر العودة لمسقط رأسه بهدف الوجود قريبًا من أهله وأصدقاء الطفولة القدامى؛ ليعيش بعيدًا عن صخب وضجيج الحياة في المدن الكبرى، وليتفرغ أيضًا لعبادة ربه والتقرب له بتفقد أحوال الضعفاء والمحتاجين.
هذا هو المربي الفاضل إبراهيم بن حمود السويح أحد جيران الفقيد يقول: كان أبو أحمد من فترة لأخرى يمنحني مبلغاً من المال لتوزيعه على الأسر المتعففة، ولم يكن أحد يعرف من هو المتبرع، أسأل الله في هذه الأيام المباركة أن يتغمد فقيد (الخبراء) بواسع رحمته، وأن يسكنه الفردوس الأعلى من الجنة. وسامحونا.