أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: سررتُ قبل أيام بزيارة أبناءه الأفاضل وإهدائي كتاب عن والدهم بعنوان (محمد بن عبدالله المانع أول مدير للتعليم بمنطقة الوشم التعليمية/ سيرة ومسيرة) رحمه الله تعالى، وهو من إعداد ابنه البار (أحمد) حرسه الله تعالى وإخوانه جميعاً، وقد استوعب فيه مراحل حياته منذ النشأة والعلمية والعملية، وسلط الضوء على جوانب مضيئة في مسيرته العامرة بالإنجاز والعطاء، و(آل مانع) أسرة كبيرة، ومن بيوتات نجد البارزة في (شقراء، وأشيقر، وعنيزة، والأحساء) وغيرها، يرجع نسبها إلى (مانع بن شبرمة من آل محمد بن علوي بن وهيب من الوهبة من بني تميم)؛ فهي أسرةٌ عريقة، وشجرة طيبة الأصل، شهيرة المآثر، لهم في مدينة (شقراء) ذكر قديم، وسمعة حسنة، ولهم فيها أوقاف وأملاك وتجارة، ولقد أنجبت هذه الأسرة قديماً وحديثاً علماء أجلاء وقضاة بارزين لهم دور ريادي في النهضة العلمية والتعليمية في بلادنا الحبيبة، فهي أسرة علم و معرفة تشبثوا به وطلبوه منذ أمد بعيد، وفي هذه المقالة سأتناول ومضات مضيئة من حياة ومسيرة علم من أعلام هذه الأسرة الكريمة في (شقراء)، ورائد من رواد العلم والتعليم في بلادنا الشيخ والمربي الفاضل (محمد بن عبد الله المانع) رحمه الله تعالى؛ فقد ولد في مدينة شقراء عام 1355هجرياً/ 1936ميلادياً، ونشأ في كنف والده، وكان من تجار شقراء ووجهائها؛ ووالدته (لطيفة) حفيدة الشيخ (علي بن عيسى) العالِم والفقيه المتبحر وقاضي شقراء ومرجع أهل الوشم في الفتوى.. قال عنه الدكتور محمد بن سعد الشويعر متعه الله بالصحة والعافية: (علي بن عبدالله بن عيسى كان عالماً ورعاً نزيهاً, تولى قضاء شقراء قرابة (40) سنة لثلاثة حكام، هم: عبدالله الفيصل، ومحمد بن رشيد، والملك عبدالعزيز، وله فراسة ومفاكهة، ويحفظ كثيراً من النوادر الأدبية والقصائد، توفي في شقراء عام 1331هجرياً/ 1913 ميلادياً).. وفي بداية مشواره لطلب العلم التحق بمدرسة الشيخ (عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن حنطي) يرحمهما الله تعالى ودرس عنده القراءة والكتابة وحفظ أجزاء من القرآن الكريم، وكان مقرُّ المدرسة وسط السوق الداخلي والذي يعرف بسوق المجلس غربي جامع الديرة، وكانت دروس الشيخ (ابن حنطي) شيقة الأسلوب لا تمل بما حباه الله من موهبة في التعليم والتلقين، مع الإخلاص وحبه لطلابه.. يقول الشيخ ابن مانع عن أستاذه ابن حنطي: (كان من الرجال القلائل، فلقد كان تقياً ورعاً زاهداًي أمور الدنيا، فعندما يُؤذِّن للصلاة كان يترك كل شيء أمامه، ومما أتذكَّرُه في ذلك أنه في إحدى المناسبات ناوله المضيف كأس الشاي، فما إنْ أذَّن المؤذن للصلاة حتى وضعها على الأرض متوجهاً للمسجد).. ثم التحق بمدرسة شقراء الابتدائية التي تم افتتاحها في أواخر عام 1359هجرياً/ 1941 ميلادياً، وكانت من أوائل مدارس المملكة التي أمر بافتتاحها الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى، وتولى إنشائها الشيخ (عبدالمجيد جبرتي) - رحمه الله - إمام الحرم النبوي الشريف لعدة سنوات، وكان أول مدرس بها، وتخرج منها عام 1367 هجرياً/ 1947 ميلادياً، ثم التحق بمدرسة تحضير البعثات بمكة المكرمة؛ وهي من أوائل المدارس التي تم إنشاؤها في المملكة في زمن الملك عبدالعزيز عام 1354 هجرياً/ 1935 ميلادياً، ووضع لها منهج خاص من منهج الدراسة المصرية بحيث تكفي شهادتها لدخول حامليها في المعاهد العليا والجامعات المصرية وغيرها، وبذلك انتقل الشيخ المانع من (شقراء) مسقط رأسه إلى (مكة المكرمة) لمتابعة تعليمه، متحملاً بُعْدَ المسافة وانعدام وسائل الاتصالات وصعوبة البعد عن والده ووالدته ومدينته شقراء لما في ذلك أثر بالغ عليه، ولكن بتوفيق الله وعونه تحدى تلك الصعاب، وكان لوالدته رحمها الله أثر كبير في تشجيعه ومساندته بما يحقق رغبته من خلال نظرتها لمستقبله المشرق.. ثم انتقل إلى مدرسة دار التوحيد في الطائف مع زميله الشيخ عبدالعزيز الهويش (توفي عام 1394 هجرياً/ 1974 ميلادياً)، ثم تابع في كلية الشريعة بمكة المكرمة لمدة أربع سنوات، وكان من أبرز من تأثر بهم واستفاد من علمهم خلال تلك المدة أستاذه الشيخ (محمد متولي الشعراوي)؛ إذ يقول عنه: (من أبرز المكاسب التي حصلتُ عليها في دراستي أنْ تلقيتُ العلم على يد عَلَم من أعلام اللغة العربية الذي كان أسلوبه مختلفاً؛ إذ جمع بين البساطة في الشرح، وطريقته الفريدة في العرض، وأسلوبه المميز في النقاش وطرح الأسئلة.. كان بحراً لا يـُجارى، وكان درسه يحضره الجميع لما فيه من المعلومات والفوائد والدرر).. وقد تخرج من كلية الشريعة بمكة عام 1375هجرياً/1955ميلادياً.
قال أبو عبدالرحمن: لقد كانت حياة الشيخ محمد المانع العملية حافلة بالإنجاز والعطاء، فقد كانت البداية عام 1369 هجرياً/ 1950 ميلادياً؛ إذ عين مدرساً في المدرسة الابتدائية في شقراء، ثم في مدرسة عنيزة الثانوية في 1376 هجرياً/ 1956 ميلادياً، ثم عمل مشرفاً على التعليم بالوشم، ومكلفاً على إدارة التعليم نجد، وقد قال عنه الأستاذ محمد بن إبراهيم العمار قصيدة جميلة، منها الأبيات التالية:
مضى ربع قرنٍ كان فيها ابن مانعٍ
مُديراً لها بالوشمِ رغم كل العوائِق
جوادٌ كمثلِ البحرِ في الجود والندى
وبحرٌ ودناهُ قليلِ المضائق
لقد كان غيثاً مالك الملك ساقهُ
على الوشم هطَّالُ بغير صواعق
مديرٌ نبيلٌ في المواقفِ دائماً
كريمٌ صدوقٌ من أناسٍ أصادق
ولمدينته شقراء مكانة كبيرة في قلبه فقد كانت الحاجة ملحة لإنشاء جمعية لتحفيظ القرآن الكريم بمنطقة الوشم، فتم تأسيسها عام 1405 هجرياً/ 1985 ميلادياً، وكلف نائباً لرئيس الجمعية؛ وهو أيضاً أحد أعضاء جمعية أصدقاء المرضى، وعضواً في المجلس المحلي لمحافظة شقراء، وقد أسهم مع باقي الأعضاء في خدمة المحافظة عبر تقديم الآراء والمقترحات الهادفة إلى تطوير العمل بالمحافظة.
قال أبو عبدالرحمن: لقد عرف عنه حبه للبذل والعطاء للآخرين، وكثيراً ما كان يردد مقولته: (إذا قدَّمتُ صدقة أو إعانة يمضي ذلك اليوم وصدري مبتهجٌ ومتَّسع)، كما اتسم رحمه الله بالسماحة والطيبة والتواضع في تعامله مع الجميع دون تكلُّف أو تصنُّع، وقد جمع في أسلوبه بين اللين والرفق، ومن جميل أقواله في الحكمة والتواضع: (بعض الناس يلبس ثوباً فضاضاً واسعاً ومسبلاً، وربما تعثَّر في مشيته وسقط على الأرض، وآخر يرتدي ملابس ضيقة يحشر فيها نفسه ويقيد بها حركته وقد يعجز بها عن السير، ما أجمل أنْ يعيش الإنسان كما هو على طبيعته، وأنْ يلبس ما يناسبه دون الحاجة إلى ارتداء ثوب ليس له، وبشكل لا يناسبه).. كما عرف عنه شغفه بالقراءة وخاصة كتب التفسير، والحديث، والأدب، والرحلات، والتاريخ، وقد وهبه الله تعالى ملكة عالية في الحفظ وذاكرة متوقدة استمرت معه حتى وفاته رحمه الله، في عام 1437 هجرياً/ 2016 ميلادياً، ولطالما كان يردد أبياتاً لأبي الحسن علي بن محمد التهامي، منها:
حكمُ المنية في البرية جارِ
ما هذه الدنيا بدار قرارِ
قال أبو عبدالرحمن: ومِنْ صفاته الإنسانية فقد عُرِف عنه رحمه الله تعالى حرصه على صلة الرحم، وارتباطه بأهله؛ فكان له مكانة عظيمة في قلوب الجميع، وله يدٌ بيضاء وبصمات في كثيرٍ من الأعمال الخيرية التي لم يعرف عنها إلا بعد وفاته رحمه الله تعالى، ومن صفاته التواضع؛ إذ لم تشغله المناصب وكثرة الأعمال عن الواجبات.. وكان رحمه الله دمث الأخلاق، وقد رحل وترك إرثاً كبيراً لأبنائه وأهله، وهو محبة الناس والدعاء له، وكان جاداً عصامي في عمله؛ فكان بذلك رائداً تعليماً واجتماعياً وإنسانياً، ووطنياً صادقاً مخلصاً لبلاده ودولته وأمته.
قال أبو عبدالرحمن: وفاءً واعترافاً مني بثقافة وعلم وفكر واستقامة الشيخ (محمد المانع) رحمه الله أنْ أُشِيْدَ بتلك الكليمات، والومضات المضئية، والشذرات النافعة التي تُسَلِّط الضوء على هذه الشخصية الوطنية الفذة، والشكر والعرفان لما قدمه؛ وإني لأرجوا أنْ تكون سيرته قدوة للأجيال في خدمة المملكة والمساهمة في نهضة المجتمع والتعليم ومحاربة الجهل والأمية؛ وهو رجل له مآثر ومناقب وحسنات يفخر بها من ينتسب له، و يذكرها من عمل معه، ويستشعرها من تعامل معه، ويشكره من ناله بعض إنجازه، والحديثُ عن أحد هؤلاء الرجال الأعلام وفاء منا جميعاً ببعض حقه علينا؛ ومن حق الأجيال أن تعرف قدر هؤلاء الرجال، وما أدوه لدينهم ووطنهم طيلة حياة عامرة بالخير والبذل والعطاء؛ فكانوا بحقٍّ أعلاماً تفتخر الأجيال بسيرهم العطرة؛ فالرجال معادن والشيخ (محمد) من الرجال الأمناء الشرفاء، ومن الوفاء لأمثال هؤلاء الرجال أنْ يعكف الباحثون على تأليف الدراسات عن تجارِبهم وحياتهم للاقتداء بها، والاستفادة منها من حيث الفكر والمنهج والأسلوب في الإدارة والتربية والتعليم.
قال أبو عبدالرحمن: على الرغم من أن الموت حق، ومصير كل حي.. وعلى الرغم من أن الشيخ (محمد) رحمه الله تعالى استهلك عمره المبارك في علمٍ وكفاحٍ وعطاء: فقد كان خبر وفاته لحظة ذهول لكل من عرفه وأحبه، وما مقالتي الموجزة لمناقبه وخصاله إلا تذكير بخصائص جوهر نفيس إن نسيها الجمهور كان رحيله ذكرى عابرة في حياتنا، وهذا لا يليق بأمة عاشت ريادة علم بارز له مكانته في قلوب كثير من خلال سيرته الحافلة بالعطاءات والإنجازات.
قال أبو عبدالرحمن: أسأل الله تعالى أن يتغمد الشيخ محمد بواسع رحمته، وبحمد الله تعالى قرت عينه بأبناء بررة ليتابعوا مسيرته ويقتفوا أثره ويكونوا خير خلف لخير سلف؛ فقد عاش رحمه الله على فطرةِ الإسلام، وبقي دور ذريته في الدعاء للوالدين، والصَّدقة الجارية، والولد الصالح مضمون من الرب الكريم إجابة دعوته.. أسأل الله تعالى أن يبارك لكم في عمركم وعملكم وأهلكم وذريتكم، وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.