اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
مما لا يختلف عليه اثنان من طلاقة وجه المرء عند تعامله مع الآخرين ما حضرت في موقف يتطلب حضورها إلا زانته ولا غابت من ذلك الموقف إلا شانته، لما تدل عليه طلاقة الوجه من دلالات جميلة، وما توحي به من إيحاءات نبيلة، تجمعُ بين المودة والكرم والبر والمروءة وحسن الخلق، انطلاقاً من أن الاستقبال بطلاقة مدعاة لابتهاج الطرف الآخر الجاري استقباله، والتحية ببشر تجلب له الرضا نتيجة لما ينطوي عليه البشر من نور الإيجاب والدلالة على السخاء بالشكل الذي تبرز معه مظاهر المروءة المتمثلة في البشاشة والتودد إلى الناس والرغبة في قضاء حوائجهم، بوصف البشر أول البر والبشاشة من الإحسان.
وتأسيساً على ذلك فإن الإنسان بفضل التخلق بالخلق الجميل، وما يتحلى به من البشاشة والقبول الحسن يستطيع اكتساب مودة الأصدقاء، وتقوية أواصر الإخاء، كما يتمكن في الوقت نفسه من إحلال الألفة محل الجفاء وإزالة الأحقاد والضغائن من قلوب الأعداء، وقد قال الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت الآية 34)، وقال عز وجل: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ( الشعراء: 215).
والواقع أن طلاقة الوجه تعطي انطباعاً عما في الضمير، وعن طريقها يقرب الأمل البعيد، خاصة عندما تكون مصحوبة بالتودد ولين الكلمة بعيداً عن التيه والعبوس، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك ووجهك طلق»، وقال: «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم ببسط الوجه وحسن الخلق»، وقال المنصور: إذا أحببت المحمدة من الناس بلا مؤونة فألقهم ببشر حسن، وروي عن كعب الأحبار قوله: مكتوب في التوراة: ليكن وجهك بسطاً تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم الذهب والفضة وكما قال الشاعر:
إن ضاق مالك عن صديق فألقه
بالبشر منك إذا يحين لقاء
وقال آخر:
خالق الناس بخلقٍ حسن
لا تكن كلباً على الناس يهرْ
وإلقهم منك ببشر ثم صن
عنهم عرضك عن كل قذرْ
والإنسان عادة ما يُمدح عندما يخالط الناس ببشر جميل وكلمة لينة، فيقال عنه إنه سهل الخلق سمح المحيا، ضحوك السن بشير الوجه بادي القبول، يصل ببشره قبل أن يصل ببره، إن سئل بذل وإن قال فعل، كأنما بينه وبين القلوب نسب، وبينه وبين الحياة سبب، فهو عيادة مريض وتحفة قادم وواسطة عقد، وقد قال الشاعر:
لا تسأل المرء عن خلائقه
في وجهه شاهد على الخبر
وقد ذهب الأدباء بعيداً في مدح البشاشة ووصفوها بأوصاف جرت مجرى الأمثال على ألسنة الأجيال، حيث أصبحت حديثاً في فم الزمان، يتناقلها الركبان في كل مكان، فجرى وصفها بأنها حبل المودة وقيل: فخ المودة وقالوا عنها إنها عطية ثانية، وأنها أول قرى الضيف، كما وصفوها بأنها رأس المودة وأنها من الإحسان ومن المروءة.
والبشر الذي يعكس البر وتلتقي عند هذه الفضائل التي جرت مجرى الأمثال هو ما كان طبعاً أصيلاً، يشهد مظهره على جوهره، لا تصنعاً دخيلاً يتناقض ظاهره مع باطنه، والطبع الأصيل المصقول بالطبع المكتسب الجميل هو الذي يتبلور من خلال العلاقة بين البِشر والبر وما يعنيه هذا التبلور من أن بذل الندى، وكف الأذى وغيرها من الفضائل ذات الصلة، لن تفعل مفعولها، ويتضح مدلولها إلا ببسط الوجه الذي يرشد إليها ويضعها في الموضع الصحيح الذي يجعل المعروف يشكر وفعل الخير يُذكر. وقد روى مجاهد عن معاذ جانباً من هذه العلاقة في قوله: إن المسلمين إذا التقيا، فضحك كل واحد منهما في وجه صاحبه ثم أخذ بيده تحاتت ذنوبهما كما يتحات ورق الشجر وكما قال الشاعر:
إذا جئته لاحظت من شمس نفسه
على وجهه نوراً يلقب بالبِشر
وهذا الطبع الأصيل تغذيه الأخلاق الجميلة سواءً المطبوعة بالموهبة أو المصنوعة التي يتم اكتسابها مع الزمن من خلال اعتيادها وتوطين النفس على التحلي بها، وهو أمر لن يتحقق بشره وبره إلا بوجود النية الصالحة الصادقة والسريرة النقية التي تُفضي إلى اتفاق القلوب وغفران الذنوب على نحو يتأكد معه خالص الإخاء، وتتوثق معه نور المودة والصفاء.