د. محمد بن إبراهيم الملحم
المجال التاسع من المجالات العشرة التي توصلت إليها الدراسة الأمريكية للتغيير الذي أنتج مخرجات تعليمية مميزة هو «العدالة في جودة تقديم الخدمة التعليمية للجميع» وهذا يعني أن المؤسسة التعليمية ليس فقط تضمن توفر المدارس في كل مناطق السكان ليصل التعليم لكل الطلاب وإنما تضمن أن جودة الخدمة التعليمية تتسم بعنصر «العدالة» وهو يقتضي أن ما يتوافر لطالب المدن الكبرى يتوافر أيضا لطلاب المدن الصغرى سواء بسواء، ليس في المباني والتجهيز فقط بل حتى في مستوى تأهيل وكفاءة المعلمين ومن يديرون العملية التعليمية، وهو مطلب صعب فعلا، ولكنه ثمن التميز التعليمي بدون شك... ليس هذا فحسب بل إن العدالة في تقديم جودة الخدمة التعليمية كما نص عليها هذا المعيار يمكن أن ينظر إليها حتى في مستوى القرى والهجر النائية وضرورة توفير نفس الجودة لطلابها، ويتأكد هذا التصور إذا كانت نسبة طلاب هذا الحجم الصغير من المدارس ذات أثر ملموس في التنمية، وفي اعتقادي لو وصلنا في المملكة إلى عدالة جودة تعليمية على نطاق مدن المملكة فقط فهي نتيجة متميزة. تحقيق هذا المعيار يتطلب عملاً دؤوباً لتوفير «مراكز تحقيق الجودة التعليمية» في كل مناطق المملكة، تتسم هذه المراكز بجودة طواقمها الإدارية والفنية وتكامل تجهيزاتها من مراكز تدريب وإمكانيات عقد مؤتمرات معلمين وتفعيل للتقنيات، ومع أن تأسيس مثل هذه المراكز ليس صعباً، لكنما الصعوبة تكمن في توفير أفرادها، وهو ما يمكن أن يحدث بطريقة النمذجة Prototyping حيث تجتهد المؤسسة في تكوين بذرة لمثل هذا المركز التميزي وترعاه حتى يأخذ شكله المتوقع ثم تعمل على نسخه رويداً رويداً من خلال طريقة القيادة بالظل Shadowing حيث إن الأفراد الجدد يعملون في ظل القدامى للتعلم منهم ثم يقومون بنسخ النموذج في مناطق أخرى، ومع ذلك فلابد من رعاية مثل هذا الانتشار من خلال فرق عمل خاصة لتوكيد الجودة فتفحص مدى تمكن كل مركز جديد من التواؤم مع البيئة الجديدة، وتعمل على مساعدته في حل المشكلات أو المواقف الجديدة كلياً، كما تقوم في نفس الوقت بنقل الخبرة الجديدة إلى مراكز أخرى جديدة وهكذا، المهم وبعيداً عن مزيد من التفاصيل فقط وددت أن أقول: إن أي رؤية تميز قابلة للتحقيق Doable مهما بدت صعبة.
أخيراً المجال العاشر من هذه المعايير الملهمة هو «الاتفاق على مرجعية معيارية للحكم على التعليم» والتي تكون عادة بالمقارنة مع دول متفوقة أخرى (غالباً من خلال الدراسات الدولية)، وهو ما ظل بالنسبة لنا في السعودية (وأتوقع في كثير من الدول العربية أيضاً) شيئاً ضبابياً، فلا تعلم ما هي المحكات التي يقيس بها أصحاب القرار جودة التعليم، وعند الحديث عن تقييم التعليم تسمع فقط سردا لما أنجزته مؤسسات التعليم من قيم كمية في أعداد المدارس أوالطلاب وما إلى ذلك، وكذلك مقدار ما أنفق فيها من الملايين أو المليارات، بينما لا يمكنك أن تعثر على ما يشير إلى مؤشرات الجودة التعليمية! وهناك محاولات أحياناً بالاستشهاد بالطلاب المتفوقين في المنافسات الدولية، لكنما هذه لا تصلح أن تكون مؤشراً لجودة الخدمة التعليمية كلها، فغالبا يكون للأسرة دورها الأكبر في الرعاية، ومع التقدير لما تقدمه مؤسسات الرعاية لدينا، لكنما أبرز ما تقدمه غالباً هو توفير الفرص وتقوية المهارات للطلاب المتفوقين أصلاً ثم تهيئتهم للمنافسات الدولية ليتمكنوا من خوض غمارها، وكل هذا مع قيمته الوطنية لدعم أبنائنا الطلاب المتفوقين والمبدعين لكنه لا يصلح أن يوضع في غير موضعه فيغدو هو مؤشر القياس حول «جودة التعليم» عموماً عبر كل البلاد.
مؤخراً لوحظ توجه لدى مؤسساتنا التعليمية ممثلاً في هيئة تقويم التعليم والتدريب ووزارة التعليم بجعل نتائج اختبارات الدراسات الدولية مرجعا للحكم على جودة التعليم، وهذا توجه طيب، وله ما يماثله في دول أخرى اتبعت نفس المنهج ونجحت وحققت إنجازات، ولكن نتمنى ألا تكون هذه مجرد تصريحات أو رغبات شخصية للقادة الفضلاء الموجودين حالياً فقط (ولهم كل الشكر والتقدير على ذلك) وإنما يجب أن يثبت هذا التوجه من خلال استصدار قرار مرجعي يلزم أي قيادة مستقبلية تستلم العمل بالتقيد بهذا التوجه لأن تطبيقه يكون عبر عدد من السنوات االقادمة لا تقل عن ست إلى عشر سنوات، فكل دورة من دورات هذه الدراسات الدولية مدتها 3 سنوات، فلا يمكن تفعيل مرجعية الجودة بدون هذه الدرجة من الالتزام الوطني لذا فإني شخصياً أتطلع إلى تبني المجلس الاقتصادي الأعلى لمثل هذا التوجه ويصدر فيه قراراً سيادياً. أتمنى ذلك.