للأوليات نقوش لا تنمحي، وآثار لا تبلى، تعود كلما عرض ذكر، أو عادت ذكرى، وكثيرًا ما تختزن ذواكرنا أوائل لقاءاتنا، وصداقاتنا، وأحداث حياتنا، ورمضان الأول في ذاكرته حاضر كما هو، لم تبله السنين، ولم تتشابه الأزمنة والأمكنة، أو تختلط الأحداث والأشخاص، حتى يقع الوهم، إنه ماثل بتفاصيله، صوت المدفع، والاجتماع للإفطار، وصلاة التراويح مع أمه رحمها الله في مسجد (الجعيفري)، فإن لم تذهب فالاستماع إلى تراويح الحرم عبر المذياع، في غرفتها في بيت الطين، كانت تبدأ صلاتها وقد قصرت صوت المذياع، حتى إذا شرع (السبيل) بالتراويح توقفت عن الصلاة، وجعلت تستمع إليه، فإذا فرغ أكملت تسليماتها!
لقد ارتبط رمضان بـ(السبيل) و(الخليفي) و(ابن صالح)، تلك الأصوات العذبة التي لم يدركها التكلف، حتى نشأت المحبة، التي تستدعي معرفة المحبوب، وأخباره وآثاره، تسأل عنه، وتقرأ له، وتستمع إليه، وتتمنى لقاءه، وهكذا ينشأ الأثر، ويثبت التأثر، فالمحبة والإعجاب أساس لاصطفاء القدوة، واختيار الطريق، وبناء التوجه.
وفي المرحلة الثانوية أراد الفتى أن يزور بيت الله، فأنشأ السفر لأول مرة يكون فيها قد ملك زمام أمره، لم يكن تابعًا، ولا مقودًا، ولما طلبت منه أمه أن تصحبه، استجمع لها ما أسعفه حاله من العذر، ورجاها أن تأذن له هذه المرة، على أن يصحبها بعد ذلك وقد اكتسب خبرة واعتيادًا.
وكان لحرصه واشتياقه لبيت الله قد أطال أيام سفره، وبنى على ذلك حجز نزله، وعدة رحلته، حتى إذا وصل بيت الله، وكاد يقضي عمرته، ويحلق رأسه، أخذه آخذ من هم، ووابل من غم، لا يدري ما سببه، ولا يعرف كيف يتخلص منه، وجعل يسأل نفسه: أهذا عاجل عقوبة اعتذاره من أمه، أم أنها وحشة الجديد، واستنكار غير المألوف، ولازمه الهم أيامًا، حتى إذا كادت أيام السفر تنتهي، وكان لا يخرج بين العشاءين من الحرم، يمضي وقته بالطواف تارة، وبالتجوال على الحلقات أخرى، سامعًا لا مستمعًا، ومستكشفًا لا متعلمًا، عرض له أن يبحث عن خلوة الشيخ السبيل، لعله يجده فيلتقيه، فسأل حتى دُلَّ عليها، فتوجه إليها تحت باب الملك عبد العزيز، فاستأذن ودخل فإذا مستفتيان قد جلسا بين يدي الشيخ يسألانه، فجلس حيث انتهى به المجلس، وأعد بانتظار فراغهما عددًا من الأسئلة، جعلها عذرًا للقاء، ومطيةً للحديث، حتى إذا فرغا وخرجا اقترب وجلس إليه يسأله، وكان مجلسه ذاك غاية مراده، ولكن الأمر لم يقف عند الأسئلة، فلا يدري كيف امتد الكلام، حتى سأله الشيخ عن اسمه، فلما عرفه بنفسه، انفتحت له أبواب لم يكن يتوقعها، رحب به الشيخ خير ترحيب، وسأله عن جده، وعن أعيان أسرته، وذكر له من أخبارهم، وطال المقام قليلاً، فخرج وقد تبدل همه، وزال غمه.
لقد أحسن الشيخ عليه بتواضعه، وباستجابته لدعوته، فكان الفتى ما إن يعلم بزيارة الشيخ عنيزة إلا يبادر إلى دعوته، فأجابه مرات، يشرف فيها منزله الصغير، بصحبة الأستاذ الفاضل القدير الشيخ محمد بن علي المحمود رحمه الله، وكم غمره الشيخ في تلك المجالس بفضله، وكم تعلم من تواضعه، وكم استلهم من أسلوبه العذب، وخلقه الجم، وعلمه الموسوعي، فالحديث متنوع بين الفقه والتاريخ، وأخبار الحرم والإمامة والخطابة، وأعلام العلماء، وطرائف العامة، ولا يخلو من تعريج على النحو واللغة.
معالي الشيخ محمد بن عبد الله بن محمد السبيل (1345-1434ه)، إمام المسجد الحرام وخطيبه، وعضو هيئة كبار العلماء، وعضو المجمع الفقهي الإسلامي، والرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، وقبل ذلك الفقيه الأديب، والنحوي الشاعر، درس الفرائض والفقه والعقيدة، وألف الكتب والرسائل، وأفتى السائلين في (نور على الدرب)، كما درس النحو في البكيرية، وفي معهد بريدة العلمي، وفي المسجد الحرام، وكان قمة في التواضع والبساطة.
حدثني أحد الزملاء عن حادثة وقعت له في الحرم المكي، حيث اجتمع نفر من طلاب الجامعة متحلقين في أروقة الحرم يقرؤون القرآن الكريم، وكانوا قد جاوزوا العشرة، فنبههم أحد مسؤولي التنظيم أن الاجتماع بهذه الصورة ممنوع، إلا أن تكون الحلقة رسمية مرخصة، فقام كبيرهم الذي يحدثني وطلب الحديث مع المسؤول، فأشاروا إلى مبنى الرئاسة، فثم تصدر تلك الأنظمة، فتوجه إلى مكاتبها، وترقى من مسؤول إلى آخر، ولم يُرضه إلا أن يقابل الشيخ محمدًا، فلما قابله، استقبله بابتسامة لطيفة، وحدثه بحديث مقنع، وساق له الأسباب وما أنشأها من الأحداث، وما اكتنفها مما يوجب التنظيم والحذر، وكان مما قال له بأسلوبه العفوي: أتظن أنني أستطيع الإذن لكم؟ لا يغرك أني رئيس الحرمين! فخرج وهو يشكره، ويتعجب من أسلوبه وتواضعه، وطريقة إقناعه.
كما حدثني فضيلة الشيخ د. محمد السعيدي، وهو من خاصة طلابه، عن خبر لقاء الشيخ بالخميني، لما أرسلته حكومة المملكة على رأس وفد لمقابلة الخميني بعد الثورة، واستكشاف حاله، وكانت مراسم الاستقبال فيها شيء من الغرابة، فقد كان الخميني جالسًا على كرسي، وقد أعدوا للشيخ مجلسًا على الأرض! فإذا أقبل الشيخ سلم عليه وهو جالس على كرسيه، ولعلهم أرادوا بذلك أن يصوروا إمام الحرم وهو ينحني للسلام على قائد الثورة، فلما أقبل الشيخ، جلس في مكانه المعد له قبل أن يسلم، ثم لما جلس مد يده ليسلم، فكان الخميني هو من انحنى للسلام.
الشاهد في هذا أن الشيخ يروي هذا الحدث في مساق التصرف العفوي، والتوفيق الإلهي، ولم ينسب ذلك لا تصريحًا ولا إلماحًا لسرعة بديهته، أو حسن تصرفه، وهو ما يناسب ما جبله الله عليه من التواضع، ويظهر هذا المعنى أيضًا في سرده لما وقع له في حادثة (جهيمان) الشهيرة، وكانت مليئة بمظاهر الحكمة والحزم، وحسن التصرف، وسرعة إدارة الموقف، والتواصل مع المرجع الرسمي، وتفقد الإدارات الأخرى، إلى غير ذلك مما طوته تلك الحادثة من الخبر والعبر.
رحمه الله وغفر له، وأسكنه فسيح جناته.
** **
أ.د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - أستاذ النحو والصرف - جامعة القصيم