قبل الدخول في عوالِم اللغة البحثية، نتذكَّر كيف كُنَّا نكتب كلماتنا في مقرر التعبير، بالمراحل الأولى من دراستنا، فمنّا من يكتب ولا يكلّ، ومنّا من يكتب ويكبو، ومنّا من يلجمه الحرف إلجاما فلا يكاد يبين. وهذه الذكريات من سيرتنا الأولى؛ تمهّد اكتشاف شخصياتنا البحثية، وتسلِّمنا المفاتيح الأولى لمعرفة المهارات التي وهبنا الله إياها. والباحث الذي يعرف مواطن قوّته وضعفه باحث نبيه؛ لأنَّ هذه الخطوة وسيلة لإصلاح الخطأ وجبر الزلل، وما نجح ابن المقفَّعِ إلّا لوجود الحاسة النقدية الرّفيعة التي صار –بسببها- مؤدبًا نفسه، يَعْرف الطيّب فيأتيه، وينظر السيّئ فيتنكب طريقه. ومعرفة مكامن القوّة والضعف هي التي برّزت القُصيبي، فوجدناه في كتابه: (حياة في الإدارة: ص: 25) يقول: «يجيء من يسألني عن سرّ نجاحي؟ إن كان ثمّة سر، فهو أنني -دومًا- أعرف مواطن ضعفي بقدر ما أعرف مواطن قوّتي».
وإذا عرف الباحثُ أنَّ جودة الأسلوب من جوانب قوّته؛ فذلك فضل الله عليه؛ لأنَّ الأسلوبَ هو دثارُ البحث وشعارُ الباحث. وما خلا جسدُ بحثٍ من أسلوبٍ حسنٍ؛ إلّا صار مُشوّهًا كجلد الأجربِ!
وإذا تحسّس الباحثُ مكانَ ألمه، وعرف جوانب تقصيره، ثم أقرّ بأهمية أن يكون لمعنى كلماته ألفاظٌ تعجِب زُرّاع الحرف؛ توجّب عليه أن يعرف الشروط التي ينبغي أن تكون في الباحث، وفي الكلمة، وفي النّظم.
وعلى الباحثِ الموهوبِ أن يعرفَ أنَّ قدْرَهُ عليّ في الأوّلين والآخرين، وقد نقل الجاحظ في (البيان والتبيين،ج1، ص:210) مقولة لابن المقفّع يوضّحُ فيها أهمية الموهبة، بإجابته عن سؤال صاحبه: «ألا تقول الشِّعر؟ قال: الذي يجيئني لا أرضاه، والذي أرضاه لا يجيئني»، فقد امتنع عن قول الشِّعر؛ لتمنّع الطبع. والجاحظ نفسُهُ في كتابه السابق (ص:86)، قد جعل الكاتبَ الذي لا يمتلك الموهبة في الدركِ الأسفل من عالم الأدب، حين نقلَ عن بعض الحُكماء أنّه سُئل: «متى يكونُ الأدبُ شرًّا من عدمه؟ قال: إذا كثُر الأدب، ونقصت القريحة»، فالقريحة والموهبة تنفي خبثَ الصناعة والتمحّل والتكلّف. ونجدُ أبا هلال العسكري في (الصناعتين، ص:20) يمتدحُ الكاتب الموهوب، ويجعلُ هذه الصفة أوّل آلات البلاغة بقوله: «وأوّل آلات البلاغة جودةُ القريحة، وطلاقةُ اللسان»، ثم يذمّ التكلف الذي هو ضد الموهبة بقوله في (ص: 135): «فإنّك إن لم تتعاطَ قريظ الشّعر المنظوم، ولم تتكلف اختيار الكلام المنثور؛ لم يعبك بذلك أحد، وإن تكلّفته ولم تكن حاذقًا مطبوعًا، ولا مُحكمًا لشأنك بصيرا؛ عابك من أنت أقلّ منه، وزرى عليك من هو دونك». وهذه الموهبة يصفها مصطفى لطفي المنفلوطي في (النظرات، ج:1، ص30)، بأنّها حركة (طبيعية) من حركات النَّفْس، في قوله: «والبيان ليس سلعة من السّلع التي يتنقّل بها تُجّارها من سوق إلى سوق، ومن حانوت إلى آخر، ولكنّه حركة طبيعية من حركات النفس، تصدر عنها آثارها عفوًا بلا تكلّف». وقد تحدث غير العرب عن أهمية الموهبة في الكتابة، ونجد هذا في قول (جان جاك روسو) الذي أورده (دايل كارنيجي) في كتابه (فنّ الخطابة، ص: 38)، حين وصف كتابة رسالة الحُبِّ: «بدأ من دون أن يعرف ما الذي سيقوله، وانتهى من دون أن يعرف ما نطق»، ومع تقديري لما كُتب عن الموهبة ودورِها في الرقيّ بالمكتوب، إلّا أنّه لا يمكن القول: إن كلَّ كاتب هو موهوب، فالتدريب، والتكرار، والمحاولة سُبلٌ سالكة، ودروبٌ لا عِوج فيها نحو الكتابة الرصينة المجوّدة، وليست الخشية في الخطأ، وإنما في الخوف من الوقوع فيه، وكلّ الذين وصلوا كانت أقدامهم داميةً، ورؤوسهم شُعثا، وأجسادهم فيها آثار رماح الخطأ والزلل، وقد قال ابن الأثير في (المثل السائر، ص: 35): «فإنَّ الفاضلَ من تُعدّ سقطاته، وتُحصى غلطاته»، وحثَّ أبو داود بن حريز على التدريب بقوله الذي أورده الجاحظ في (البيان والتبيين، ص44): «رأسُ الخطابة الطبع، وعمودها الدّربة»، وهي وصية شوقي ضيف في (البحث الأدبي، ص: 78)، حين قال: «ولا بُدّ أن يتمرّنَ طويلًا؛ حتى يستقيم له أسلوب واضح فصيح، يخلو من الألفاظ الغريبة، والأخرى العاميّة المبتذلة»، فالشرط عنده في لغة الكتابة البحثية: أن تكون لغة لا شرقية ولا غربية، تضيء حروفها بالفصاحة، والبُعد عن العامية والأعجمية. والباحثُ الذي يتدرّب على الكتابة السليمة من غير قبسٍ أو جذوةٍ من علمٍ؛ يسقط في أوحال الضياع، ويسير بغير هدى، فيكون قلمه كعصا في يد أعمى يتهادى بها في طريقة؛ خشية السقوط. وفي الحثّ على القراءة يقول (دايل كارنيجي، في ص: 158، من كتابه: فنّ الخطابة): «كم يدين الخطباء العظماء لقراءاتهم، وارتباطهم بالكتب. الكُتُب! هناك يكمن السرّ، فمن يرغب في أن يُغنِي ويوسّع كلماته، ينبغي عليه أن يغسل ويصقل ذهنه باستمرار في روافد الأدب».
وإذا أراد الباحثُ الاقتدار، فعليه بالقراءة في كتب التراث التي هي وقود التدريب، وترياق المنفلوطي في قوله (ص: 36، ج:1، من كتاب النظرات1): «ومن لا يضطلع بأساليب العرب ومناحيها في منظومها ومنثورها؛ سرَت العُجمة إلى لسانه، أو غلبت العاميّة على أمره «، وهي نصيحة طه حسين، التي دوّنها محمد الدسوقي، في كتابه: (أيام مع طه حسين، ص: 17) بقوله: «فلِكي يكتب الشباب أدبًا أصيلًا، أدبًا جديرًا بالبقاء، يجب عليه -إذن- أن يقرأ كثيرًا في القديم والحديث، وألّا تشغله المدنية الحديثة بمخترعاتها،... عن القراءة الواعية المتعمّقة»، ومن يقرأ الأساليب الأدبية الحديثة، بعد سيلٍ من تطبيقات التواصل الجديدة؛ يعرف أنَّ اللغة تهوي في درك الأعجمية، أو في ميدان العامية. وطه حسين هو الذي قال عنه حسن الهويمل في مقاله: (عفا الله عن طه حسين، ما أظلمه لنفسه!): «ولا أسلوب لمن لم يقرأ ما أملاه طه حسين»، ويقول محمود الطناحي في مجموعة مقالاته (ص:138،ج:1): «إنَّ هجر الكتاب القديم، وهو وعاء العلم ومستودع التراث، والاستعاضة عنه بالمذكرات والمختصرات؛ قد حجب عن هذا الجيل كوى النور، وحلّاهم عن موارد العلم»، وإنّي -بمناسبة إيراد قوله هذا- أقترحُ قراءة مقالته: (صيحة من أجل اللغة العربية)، وهي في مقالاته المجموعة.
وعبدالقاهر الجرجاني خيرُ من يُقرأ له، وهو ممن يُجيع اللفظ ويُشبع المعنى - بحسب تعبير عبدالله بن سليم الرشيد في تغريدة ذكَر فيها قوله: «في صناعة الأسلوب تذكّر أن تُجيعَ اللفظ، وتُشبعَ المعنى. قلّل اللفظ ما استطعت، وكثّف المعنى. من بات لفظه مُتخمًا، ومعناه غرثان جائعًا؛ فهو في ترتيب مستعملي اللغة في درجة دُنيا»، ويشجّع محمود شاكر في مقدّمة تعليقه على كتاب: (دلائل الإعجاز، ص: أ) على القراءة للجرجانيّ بقوله: «فمنذ دهر بعيد حين شققت طريقي إلى تذوق الكلام المكتوب، منظومه ومنثوره، كان من أوائل الكتب التي عكفتُ على تذوقها كتاب: «دلائل الإعجاز» للشيخ الإمام أبي بكر عبدالقاهر بن عبدالرحمن الجرجاني»، وقوله في مقدمة تعليقه على كتاب (أسرار البلاغة، ص:3): «قرأتُه -أيضًا- وعلّقتُ عليه، فهما[أي: أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز] أصلان جليلان، أسّسَا قواعد النظر في علم الألسن عامة، وبلاغة اللسان العربي المبين خاصّة».
وإنّي لأنصح بالقراءة لابن المقفّع، وأبي حيان التوحيدي، ومحمود شاكر، وأبي هلال العسكري، وابن بسّام الشنتريني، وثمَّة كتب في هذا المجال، مثل:
- الأخطاء اللغوية الشائعة في الأوساط الثقافية: محمود جمعة.
- تطور الأساليب الكتابية في العربية: عيد الخريشة.
- العربية الصحيحة، دليل الباحث إلى الصواب اللغوي: أحمد مختار عمر.
- فنّ الكلام: كمال بشر.
- قل ولا تقل: مصطفى جواد.
- كيف تكتب بحثًا أو رسالة؟ أحمد شلبي.
- لغة الجرائد: إبراهيم اليازجي.
- معجم الأخطاء الشائعة: كوكب دياب.
وإنَّ كتبُ التصحيح اللغوي خاضعة للاجتهاد، وبعضها متشدّد، لكنّها تفتح للقارئ آفاقًا من النظر اللغوي والجدل العلمي.
ومن هنا أقول: إنَّ على الباحث أن يطير بجناحين هما: الموهبة، والدّربة، وعليه بعد ذلك أن يعرف كيف يختار كلماته، وينظمها في عقد ثمين، وينبغي أن تكون (الكلمة) دقيقة في مدلولها، وقد «وضع (جوزيف بوليترز) -مؤسس جريدة (نيويورك وورد)- هذه الكلمات الثلاث، فوق مكتب كل رَجُل في مكاتب التحرير: الدّقة، الدّقّة، الدّقّة» (فن الخطابة، ص:51) ، ويوضح شوقي ضيف في (البحث الأدبي، ص:76) المقصود بالدِّقَّة بقوله: «معرفة دقيقة بالألفاظ التي يستخدمها، وكثيرًا ما يستخدم الباحثون المبتدئون كلمات ورثوها عن أسلافهم من النقاد، دون أن يتبيّنوا معناها تبيّنًا كافيا، كأن يقول أحدهم-مثلًا- عن أسلوب قصيدته إنّه: جزل، سائغ، رصين. وكلمةُ (جزل) كانت تُستخدم -أصلًا- للغليظ من الحطب، وهي -لذلك- تعني في الأسلوب الأدبي الفصيح: المتين الذي تستطيل كلماته، وتكثر فيها الحروف القوية، مثل: القاف، والطاء، والصاد، والضاد»، ومن أمثلة الدقّة قول عبدالله بن سليم الرشيد، في (كتابةِ البحث العلمي، ص: 109): «ويحسن بالباحث أن يحذر من إطلاق الأحكام الصارمة في المسائل الدقيقة المتنازع فيها، فلا يقول: ولا جدال في كذا... يعبّر تعبيرًا حذرًا، كأن يقول: والراجح كذا»، فينبغي على الباحث أن يتجنّب التعميم الذي قد يكون نتيجة تسرّع الباحث في استخلاص النتائج، بعد ملاحظة أمثلة جزئية، كأن يقول: شعراء هذه البيئة يتَّصفون بكذا.
وإذا كانت الدقّة مؤكدة، فإن مراعاة قواعد الإملاء والنحو فرضٌ لا يسقط بالكفاية، واستبشع محمود الطناحي في (مقالاته، ص: 138،ج:1) الأخطاءَ اللغوية والنحوية بقوله: «إنَّ الأخطاء اللغوية والنحوية صارت تأخذ علينا الطرق، وتأتينا من كل مكان، وهي أخطاء بشعة مُفزعة، تشمل كل شيء: من الأخطاء في أبنية الأسماء، وأبنية الأفعال، ومخارج الحروف وصفاتها، وأسماء الأعلام، والكُنى، والألقاب، والأنساب، ولا تسأل عن غياب العلامة الإعرابية، أو التخليط فيها». وعلى الباحث أن يوازن بين كلماته، فيختار الأحسن، وقد تكون الكلمة صحيحة لكنّ غيرها أصحّ منها، وهو ما عبّر عنه الطناحي -أيضًا- بقوله في (ص:196،ج:1): «وهذا الكلام صواب، ولكنّه ليس الصواب الذي لا صواب غيره»، ثم إنَّ على الكاتب ألّا يكرر كلمات معيّنة، يجدها القارئ في كل صفحة من صفحات البحث، فـ»كلماتنا تعكس تفكيرنا الدقيق، وتُخبر المستمع البصير عن معارفنا، وهي إشارة واضحة عن ثقافتنا وعلومنا» (فن الخطابة، ص:154). وينبغي الابتعاد عن ألفاظ التعالي والإعجاب بالنفس، والسخرية بالآخرين، ثمَّ إنَّ عليه أن يبتعدَ عن تكرار الكلمات، وكتُبُ الترادف مفيدة في هذا، مثل كتاب: (الترادف في اللغة العربية، لوليد عبدالمجيد).
والكلمة لا يستبين معناها إلّا حين تُنظم مع أختها في عقد واحد، فتطَّرد المقدّمات والنتائج، وهذا الانسجام بين الكلمات هو البيان الذي وضّحه المنفلوطي، في (النظرات، ص:33) بقوله: «وليس البيان ذهاب كلمة ومجيء أخرى، ولا دخول حرف وخروج آخر، وإنما هو النظم، والنّسق، والانسجام»، ونظم لغة البحث هي: «أن ينقل الباحثُ إلى القرّاء الصورة الكاملة عن موضوعه في جميع مراحل البحث، مُنذ كانت مُشكلة حتى النتائج التي وصل إليها» (البحث العلمي، عبدالعزيز الربيعة، ص:239)، ولا أريد التمثّل بعبارة شوقي ضيف التي، التي أوردها في (البحث الأدبي، ص: 73) وفيها: «ومن النّاس من لا يستطيعون أن يَصلوا بين كلام وكلام، أولئك ينبغي ألّا يكلّفوا أنفسهم مؤونة البحث؛ لأنهم لا يملكون وسائله الأولى من الترتيب والتنسيق»، بل عليهم أن يكلّفوا أنفسهم مؤونة البحث بالدربة والمراس وطول التأمل قبل الكتابة، كما في وصية أحد خطباء بني هاشم لابنه بقوله: «استعن على الكلام بطول الفكر في المواطن التي تدعوك نفسك فيها إلى القول؛ فإنّ للقول ساعات يضر فيها الخطأ، ولا ينفع فيها الصواب» (البيان والتبيين، ج:1، ص:232)، وعليهم أن يكلّفوا أنفسهم بكثرة القراءة حتى تتضح الرؤى في الأفكار التي سيكتبون عنها، فإنَّ «السبب الشائع لفشل الناس في الإيضاح، هو: أنّ الشيء الذي يرغبون في إيضاحه ليس واضحًا عندهم» (فن الخطابة، ص:136).
وعلى الباحث -أيضًا- أن يبتعد عن الاستطراد، وأن يكون حسن التعبير عن الأفكار، و»لغة البحث لغة صارمة، لا يصلح لها التعبيرات المجازية، كَتَب أحد الباحثين: فعبّرَ الشاعرُ تعبيرًا يأخذ بالألباب، وكأنه قطرات مطر أو نسيم عليل في جو خانق! إنَّ هذا الأسلوب يصلح لمقالة انطباعية تأمّلية، ولا يصلح لبحث علميّ» (كتابة البحث العلمي، ص:109)، وإنَّ من العيوب في النظم: كثرة الحشو، ومن أضربه التي ذكرها أبو هلال العسكري في (الصناعتين، ص:48)، قوله: «إدخالك في الكلام لفظًا لو أسقطته؛ لكان الكلام تامّا»، وعبّر عنها بصيغة أخرى في الصفحة نفسها بقوله: «العبارة عن المعنى بكلام طويل لا فائدة في طوله، ويُمكن أن يعبّر عنه بأقصر منه». ونبّه أحمد شلبي في كتابه: (كيف تكتب بحثًا أو رسالة، ص98): بأنَّ «من المستحسن -كلّما انتهى الباحث من كتابة فصل ما- أن يقرأه بصوت مسموع مرتفع؛ ليزاوج بين الجُمل، وليطمئنّ إلى انسجام العبارات، وحسن جرسها ورنينها».
إنَّ لغةَ الباحث خيوطٌ يَنسجُ بها ثوبَ بحثه، ولا يحسنُ أن يكون ثوبه مُرقّعًا، أو مُهلهلًا، أو باليًا. وإذا كانت ثيابُنا بوابة زينتنا، فإن حروفنا نوافذ زينة أفكارنا، وكُلّنا نستطيع تجميل حروفنا.. إن أردنا..!
** **
- د. سليمان بن فهد المطلق