أ.د.عثمان بن صالح العامر
الإنسان روح وجسد وعقل، والعلاقة بين هذه الأضلاع الثلاثة علاقة معقدة تحدث عنها الفلاسفة والمناطقة والفقهاء والمفسرون، وبعيداً عمّا قيل فلسفياً وعلمياً وعقدياً في هذا فإنني شخصياً أعتقد أن عملية «التعقل» عملية قلبية محضة تختلف عن عملية التذكر التي محلها الناصية إذ لا يوجد تشريحياً لجزء في جسم الإنسان يسمى «العقل»، كما أنني أؤمن بأن هناك علاقة طردية دائمة بين الروح والجسد، إذ يتلبس الأول الثاني فتتولد النفس وتدب الحياة في جسم كل منا، وبانفصال الروح عن الجسد تنعدم النفس من هذا الكيان حيث الموت، والذي يعني انتقال كل من هذين المكونين لحياة جديدة الأصل فيها الانفصال، وقد يحدث الاتصال كلياً أو جزئياً ولفترة محددة كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن الميت وهو تحت الأرض يسمع قرع نعال مشيعية إذا انصرفوا، أما في الآخرة وبعد أن يبعث الناس من قبورهم حفاة عراة غرلا يكون النعيم أو العذاب للروح والجسد معاً وإن كان الأصل الروح.
دائما ما نتحدث عن غربة الجسد ونحزن حين يعذب هذا الكيان الذي نراه ونحس به ونتفاعل معه ويغيب عن بالنا أن للروح كما للجسد مرض وعذاب وغربه، بل ربما تكون في هذا وذاك أشد وأنكى، وغالباً ما تتقدم الروح الجسد في الأهمية وقوة التأثير حتى في هذه الدار، ولا عجب إذ إن الله ربط عملية التغيير- الذي يعتري القوم سلباً أو إيجاباً- بتغيير «النفس» {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، وقهر الرجال أمر تعوذ منه رسول الأنام وهو في المحصلة النهاية عذاب روحي لا جسدي، وعد ابن تيمية رحمه الله السجن خلوه وجنته وبستانه في صدره «نعيما روحيا».
رمضان في حقيقته قراءة للروح ومحاولة لمعرفة ترتيبها ضمن أولويات مكونه الداخلي والخارجي، البعض منا يلغي الروح ويمنح الأولوية المطلقة للعقل وربما كانت أولويتنا جسدية صرفة، والإسلام لا يدعو إلى الرهبنة والتنسك ولا يحث على إغلاق منافذ العلم وبوابات المعرفة بل يأمرنا بأن نهتم بالمكونات الثلاثة «الروح والجسد والعقل» بشكل متوازن ومتكامل حتى لا يكون لأي منها غربة، ليس هذا فحسب إذ إن هذا الدين - الصالح لكل زمان ومكان، والشامل في مقاصده وأحكامه ما فيه خيري الدنيا والأخرة - علمنا كيف ننمي فاعلية كل من هذه المكونات الثلاثة ونضمن في ذات الوقت سلامتها واستمرار عملها بقوة وحيوية وعطاء، وإذا كان البعض يتحدث عن أجساد تقوى بالرياضة وأخرى عن عقول تنمى بالمعرفة والعلم فإن الواجب ألاّ يغيب عن بال القارئ الكريم أن شهر رمضان المبارك خاصة العشر الأخيرة منه وعلى وجه أخص ليلة القدر فيه فرصة لنتحدث عن تعزيز فاعلية أرواحنا التي علاها الران وعلقت بها الأردان جراء عراك الدنيا وهزات الحياة وسرعة تصارم الليالي والأيام وشدت وصعوبة وقوة الأحداث.
هناك منا من تعيش أرواحهم غربة ولذا فشهر رمضان في قاموسهم قيد وسجن يقولون ذلك بأحوالهم وإن لم تقله ألسنتهم ولم يجرؤوا على البوح به.
إن لغربة الروح علامات كما أن لغربتي الجسد والعقل ظواهر ومستلزمات ورمضان فرصة للصادق منا في إعادة رسن روحه لمظانها حتى لا تظل في غربة طويلة لا نهاية لها إلا الموت. حفظ الله لنا توازننا، وحمى أوراحنا وأجسادنا وعقولنا، وأمدنا بالصحة والسلامة والأمن والآمان، وكل عام وأنتم بخير وإلى لقاء والسلام.