د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
كما لم نخترْ توقيتَ مجيئِنا إلى الدنيا ولا شأن لنا في توقيت الرحيل عنها فإن كثيرًا مما يخطِّط له المرءُ لا يخضعُ لإرادةٍ مطلقةٍ تعيها دواخلُنا أو تضبطُها خوارجنا، بل إن امتداد الزمن نحو الغد قد ينعكس في اتجاه الأمس، وإن لم يتحقق اليوم فالدراساتُ تؤكد إمكانَه النظري، وهو ما يُعرف بقلب اتجاهه من التعقيد إلى البساطة مع أن سهم الزمن المتوائم ضمن قوانين الفيزياء لا يأذن بذلك، والمؤمنُ الذي يعرف أن الأرض ستُبدل غيرَ الأرض، وأن الشمس ستطلع يومًا من الغرب، يدرك أن قوانينَ علميةً بشريةً ستتهاوى ذاتَ بعثٍ وقيامة.
** أثْرت فكرةُ التحكم بالزمن الخيالَ الروائيَّ الذي اتكأ على آلة السفر عبر الزمن مثلما صنع هـ. ج. ويلز 1866-1946م، فانطلق بخياله مستقبلًا الغد البعيد، ومستشرفًا الحال بعد آلاف السنين، ومقارنًا أولاد الأغنياء حينها بأولاد الفقراء؛ فالمترفون المتكئون على ثرواتهم صاروا أغبياء، والفقراء تحولوا إلى ما يشبه الحيوانات، وحكى عن شعب «الأيلو» و«المرلوك» الذِّين يتحدثون لغة مختلفة، كما لم يستطع المسافر عبر الزمن العودة للوراء.
** لا وجود لآلة الزمن في حكاياتنا الإنسانية ولكنها مكثفةٌ في هواجسنا اليومية؛ فالصغارُ يودون القفز للمستقبل، والكبار يتمنون عودةَ الماضي، ويتكرر السؤالان للفريقين: ماذا تود أن تصبح حين تكبر؟ ولو عادت بك الأيام فما الذي ستغيره في حياتك؟ وتجيء الإجاباتُ إزجاءَ وقتٍ وتحايلَ ذكريات، وحين كنا في الصف الأول المتوسط طرح علينا معلم اللغة العربية موضوعًا إنشائيًا عما نتطلع إلى أن نكونَه عندما نكبر، وكتب الصبيُّ ذو الحادية عشرة أنه يريد أن يكون طبيبًا، ولم يدر أن المعهد العلميَّ الذي التحق به لن يؤهله إلا لتخصصاتٍ نظريةٍ محدودة.
** لم يلتفت إلى حُلمه القديم فلم يكن أكثرَ من خيال طفل كما لا طاقة له باحتمال مرأى من يتوجعُ ومن يتفجعُ ومن ييأس من الحياة ومن تيأس الحياة منه، وهل نحن إلا الوعيُ والسلامُ والسلامة، وفي الضفة المقابلة فإنه لا يتمنى تغييرَ شيءٍ من مسارات حياته، وبلوغ حالة الرضا نعمةٌ إلهيةٌ لا يعدلها موقعٌ وتعلو كلَّ توقع.
** يوقظُنا الحلمُ حينًا فيختصر لنا آلة الزمن حيث يلتئمُ الغابر بالحاضر بالآتي فنرى ما لم نرَ، ونشرق بما لا يجيء، ونلتقي بمن رحل فيستيقظ الشوق وتومض الذكريات وتتساقط العبرات، وقد نرانا في عوالمَ لا نعرفُها أو لا نألفُها فكأنها تَقْدُم الغد، وتفسر الهواجس، وتختصر الاستشراف.
** كذا تلتئم المسافاتُ في خطوطٍ متقاربةٍ فنستعيدُ ونستعدُّ ونرى طيوفَ الألوان في لوحةٍ واحدة لم ترسمها يدٌ ولم تُبدعْها مهارةٌ ولا صنعتها إرادة، ويُبالغ بعضُنا في دوره بالحياة حتى يوشكَ أن يدعيَ مهام ليست له ولا منه، وما أقسى خداع الذات.
** الزمنُ قدرٌ لا تقدير.