د.فوزية أبو خالد
لا أكاد أصدق أن مقالي قد يصدر في يوم العيد الأول أو بعده بيوم بينما ما زلتُ ألهث بقلمي خلف أحداث اختطفت وقتي في رمضان في وقت كنتُ بأمس الحاجة فيه للخلود إلى الخلوة الروحية التي قد لا يكون هناك شهر في السنة يسمح لنا بها مثل شهر رمضان الذي تصبح فيه الخلوة الذاتية عملاً جماعياً في الأسرة وفي المجتمع بهدف التخفف من زعانف المعيقات والالتزامات والضغوط التي عادة ما تكبل أجنحة الروح عن التحليق في ملكوت الله تأملاً وتعبداً، بما نحاول به التحرر من تحول حياتنا الروحية إلى مجرد طقوس ومن تحويل المناسك لعادات لا سمح الله تؤدى بميكانيكية بدل تأديتها بتبتل واستغراق.
ولكن بما أنني طالما وجدتُ في شهر رمضان مساحة لإعادة ترتيب «فوضى الحواس» وشتات الفكر وتطاير الأحلام في شتى الاتجاهات التي قد نمر بها خلال العام، وبما أنني أيضاً طالما شعرتُ أن العلم مثل العمل يعبر عن نفس عَبَادة، فقد واطدتُ نفسي على أن أجد في انصرافنا خلال الشهر الفضيل عن تعدد موائد الطعام والشراب والتجمعات الموسعة وعن أساليب المعيشة الاستهلاكية المفرطة، نوعاً من الدافع لخلق «برحة حرة» أقيم فيها «مرثوناً ثقافياً صغيراً» لنفسي ليس إلا.
غير أن ظروف الجائحة للعام الماضي ولهذا العام قد أضافت على هذه «البرحة الثقافية الصغيرة» مساحة إضافية أو بعداً جديداً من خلال ما عرف عالمياً بمنصة زووم أو وبينر أو تيمز أو غيره من مسميات إلكترونية محت الجدار الرابع للحدود الجغرافية ولغرف المعيشة معاً. فما كان مني العام الماضي إلا أن فتحت أبواب تلك المساحة الثقافية الشخصية الصغيرة لأخوض بها تجربة ثقافية جديدة ومتعددة. فاستعرتُ في رمضان الماضي 1441هـ/ 2020م آيباد أحفادي الصغار وأقمتُ عدة لقاءات شعرية أطلقت عليها مسمى رومانسياً مقاوماً لعزلة الجائحة وقتها بعنوان (إكسير الشعر) استضفت بها على منصة زووم شاعرات وشعراء ونقاداً من العالم والعالم العربي والمملكة العربية السعودية. وكامتداد «لتحور» برحتي الثقافية الصغيرة الخاصة في زمن كورونا لتصير منصة ثقافية أرحب من معتادي في شهر رمضان انخرطت في بداية الأيام الرمضانية لهذا العام في عدة تجارب معرفية ذات مذاق ثقافي خاص، وهي ما كنتُ قد وعدتُ الأسبوع الماضي بالكتابة عن كل منها في مقال اليوم، إلا أنني لضيق الوقت والمساحة مضطرة ألا أوفي بكامل وعدي وسأكتفي بوقفة قصيرة هي أقل مما تستحق تجربة اللقاء الثقافي بجامعة هارفارد ولكني أذكرها من باب عشقي التوثيقي لوميض كاميرا الذاكرة.
* * * * *
2
اللقاء في هارفارد على أجنحة الشعر
جاء هذا اللقاء الأول من نوعه بتاريخ 22 نيسان مع نهاية الأسبوع الأول من شهر رمضان بمبادرة من الأكاديمية الناقدة والباحثة والمترجمة د. منيرة الغدير في عودتها إلى جامعة هارفارد كما عبرت على أجنحة الشعر باعتبار هذا الصرح العلمي العالمي الأمريكي العريق قد سبق وكان أيكا لهديلها المعرفي في مسيرتها العلمية. وقد جاء اللقاء بمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد.. بضيافة د. وليم غرنار، وترتيب د. إليزبيث فلانج...
وفي اللقاء الذي كان بعنوان (ترجمة العالم/ الشعر المعاصر بالمملكة العربية السعودية) قدمت د. منيرة الغدير قراءة نقدية عميقة لعينة من الإنتاج الشعري المعاصر لعدد من الشعراء السعوديين بانتماءاتهم الجيلية المتداخلة وبتنوع تجاربهم التجديدية في المشهد الشعري العربي والعالمي. ومن تلك التجارب تجربة الشاعر عبدالوهاب أبوزيد, الشاعر أحمد أملا والشاعر محمد الخضر والشاعر د. حاتم الزهراني. ولم تكتف د. منيرة الغدير بتقديم نماذج من ترجمتها الإبداعية الخاصة لهذه التجارب مبينة طاقة تلك الأعمال الجديدة بتعدد أصواتها على تجاوز حقول أشواك القضايا الشائكة الكبرى التي تعالقت معها بعض التجارب الشعرية الكبرى في الوطن العربي وسعوديا، بل ذهبت لتحليل أسئلة التجارب الشعرية السعودية المعاصرة وانتفاضتها على الطروحات الشمولية لصالح انحيازها للتفاصيل الحياتية اليومية المعاصرة التي تلتقي مع لحظة التحول والشك العالمي المعاصر والتشظي المعيشي بين العالم الافتراضي وبين العالم على أرض الواقع.
وكانت د. منيرة كحظ واتني في هيئة ناقدة ومبدعة قد استهلت قراءتها النقدية لتلك الأمسية الرمضانية بتوقيتنا، الصباحية بتوقيت شرق الولايات المتحدة الأمريكية، بقصيدة «هلتها ولامنتهاها» كرمز لهلة التجربة الشعرية الأولى لقصيدة النثر بالمجتمع السعودي من خلال ديواني إلى متى يختطفونك ليلة العرس. وهنا أيضاً لم تكتف الروح الباحثة بترجمة قصيدة هلتها ولامنتهاها ترجمة جمالية أخاذة من اللغة العربية إلى اللغة الإنجليزية بل قدمت قراءة تحليلية لها باعتبار القصيدة ترمز إلى ما سمته الباحثة المبدعة بـ»المنفيستو شعر النساء». وذهبت د. منيرة إلى أبعد من ذلك بدعوتي لتقديم قراءة شعرية لقصيدة هلتها ومنتهاها بناء على الترتيب المسبق، بما مكن حضور اللقاء من جامعة هارفارد وعبر العالم في ذلك اللقاء من التعرف على طيف من الشعر السعودي المعاصر (صوتاً وصورة) بحواسهم الخمسة وبملكة الفكر والوجدان.
فشكراً لجامعة هارفارد قسم دراسات الشرق الأوسط، شكرًا للدكتور وليم غارنار على إدارة ذكية وأريحية لذلك اللقاء النقدي الشعري بأسئلته التي لم تكن سهلة، شكراً للعزيزة إليزبيث على الجهد، أما د. منيرة الغدير فلا كلمات تكفي لمبادرتها الفردية التي شقت طريقاً غير معبدة ولا مأهولة في وقت غامض مبكر من عمر تاريخ البلاد/ منذ الثمانينات الميلادية/ قامت بها باجتراح تمثيلنا «العربي السعودي» في جامعات العالم العريقة بذلك الوجه الوطني المضيء ومن خلال صوت الإبداع الشعري النبطي والحديث عبر المفازات والسدر والرمل والسراب والخزامى. ويبقى في هذه الغربة المنتجة بوحشتها الجارحة وبحرير ريشها حديث لم يكتب بعد ولكنه في طور التكوين.