د.محمد بن عبد العزيز الفيصل
لم تزل تفاصيل ذلك الصباح الكئيب راسخة في ذهني، عندما استيقظت على صيحات جوالي المتوالية، لأشعر بانقباضٍ غريب، وكأن هذا الصوت الذي صدر من الجوال نذير شؤم!
لست من النوع الذي يؤمن بهذه الإرهاصات الغيبيّة التي لا ترتهن لأيِّ قانون منطقي عقلي سوى الصدف التي تدعم حضورها في بعض الأحايين، إلا أنها صدقت هذه المرة!
فما إن أجبت على أول اتصالٍ بعد أن تناولت الجهاز بيدي حتى أبلغني شقيقي دكتور فيصل بخبرٍ أقضَّ مضجعي؛ وأحال ذلك الصباح المشرق الذي اختلطت فيه أشعة الشمس الناصعة، بخيوط زجاج النافذة الداكنة التي تعكس شيئًا من روح مدينة النور؛ إلى سواد مخيف أسبغ على كل شيءٍ حولي لونه الأسود الحزين.
كنت قبل وفاة عمي الحبيب عبدالرحمن بن محمد الفيصل -رحمه الله-، أتابع حالته الصحية مع سيدي الوالد -حفظه الله-، وشقيقي الدكتور: فيصل، ومع أبناء عمي، وكنت حريصًا -كما هو حال كلِّ من حوله- على البحث عن أي نافذةٍ يمكن أن يكون فيها بصيص أملٍ للعلاج، ورغم كل المحاولات الحثيثة لإنقاذه إلا أن المرض كان أقوى وأسرع مناّ جميعًا، فلم يسعفنا الأجل طويلاً لتفارقنا روحه الطاهرة إلى السماء لتكون في رعاية أرحم الراحمين، فرحلت دون أن تترك لنا سوى بعض الذكريات الجميلة مع الفقيد التي تتسامى قيمتها مع مرور الزمن وكأنها كنز ثمين نخبئه في أكثر الأماكن أمانًا في هذه الدنيا الفانية!
كان القلق هو سيد الموقف في تلك الليلة التي كنت أحاول أن أخلد فيها إلى النوم استعدادًا لاستكمال مشاركتي في فعالية علمية بجامعة السوربون في باريس، فما أن وصلني هذا الخبر المفجع حتى حزمت حقائبي وتوجهت بصحبة صديقي مارتن إلى مطار شارل ديجول دون وعي لأبحث عن أول رحلةٍ إلى الرياض، لعل وعسى أن أدرك شيئًا من تفاصيل وداع عمي العزيز قبل أن يوارى جثمانه الثرى -غفر الله له-، إلا أن الأجل لا ينتظر أحدًا، قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (34) سورة الأعراف).
كثيرة هي الأحداث التي تمر على الإنسان في هذه الدنيا التي تتغير أحوالها وتتقلب وفق الأقدار الغيبية التي تحكم حياتنا، وتوجهها مع مرور الزمن بإرادة الله -تبارك وتعالى-، إلا أن قليلاً من البشر يملك القدرة على التكيّف مع صروف الدهر ونوائبه التي تطل علينا في كل يوم بغرائب وعجائب لم تكن في الحسبان، ولعل جائحة كورونا التي اجتاحت العالم -مؤخرًا- أكبر دليل على ذلك؛ لتؤكد ضعف الإنسان وهوانه، فمهما بلغ ابن آدم من العلم والمعرفة المبنيين على الحسابات الدقيقة فإنه سيظل عاجزًا أما أصغر المخلوقات، فقدرة الله -عز وجل- فوق كل هذه الحسابات والتوقعات، وهو أرحم بالبشر من أنفسهم.
إن أسمى ما يفعله الناس بعد موت أحبائهم، أن يحرصوا على الدعاء لهم، والتصدق عنهم، وفي هذا السياق يقول رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم-: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (رواه مسلم)، وهذا هو أقصى ما نقدر على فعله في هذا الميدان لمن توارى عنَّا تحت الثرى.
كان العم عبدالرحمن الفيصل -رحمه الله- هادئ الطباع، ساكن الجوارح، فلا يمكن أن ينفعل أو يغضب مهما كانت المواقف! والأهم من ذلك كله قدرته على ضبط توازنه بأعتى الأزمات وفي أحلك الظروف، وهذا ديدن كل من كان الحسد لا يعرف طريقًا إلى قلبه، لتطمس روحه البيضاء كل شوارد النفس الإنسانية التي قد يستغلها الشيطان في التأثير على البشر.
إنه لمن الصعوبة بمكان أن يستوعب الإنسان فقدان شخص بهذه الصفات، عوضًا عن كونه من الأقربين الذين يُعدُّون في النائبات، إلا أننا لا نملك إلا الصبر على هذه الأقدار التي قدرها الله -عز وجل- علينا في هذه الدنيا الفانية.
لقد كان العم عبدالرحمن مخلصًا في كل شؤونه، فعلى الرغم من حساسية عمله في مكتب ولي العهد، وزير الداخلية صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز -رحمه الله-، وما يتطلبه هذا العمل من التركيز والدقة والإلمام بدقائق الأمور، إلى جانب التواجد بمكتب سموه حتى ساعات متأخرة من الليل، والانتقال الدوري إلى مدينة جدة لعدة أشهر كل عام، إلا أنه لم يقصّر في أداء واجباته الاجتماعية، سواء أكان ذلك مع أسرته الصغيرة أو الكبيرة، فكان يوازن بين كل هذه المسؤوليات والمتطلبات العملية والاجتماعية بطريقة عجيبة! فلا نكاد نشعر بغيابه، ولا بثقل هذه المسؤوليات الملقاة على عاتقه، وكانت زوجته الصالحة هيا بنت حمد الدباس -وفقها الله- خير عونٍ له في مواجهة ظروف الحياة، وتربية أبنائه وبناته الذين يخدمون وطنهم في مختلف المجالات العلمية والإدارية، وهذا من أهم معايير النجاح في الحياة أن يقدم المرء لمجتمعه عناصر فاعله ومؤثرة رغم كل ما يحيط به من ظروف.
لقد كانت بشاشة العم عبدالرحمن واحتفاؤه بمحبيه تخجلهم، فإلى جانب كرمه واهتمامه بضيوفه، هو أيضًا يترك انطباعًا خاصًا لزائريه ليُشعر كل واحدٍ منهم أنه الشخص الأكثر أهمية بالنسبة إليه، وهذه السمة لا يمتلكها إلا علية القوم وأكثرهم مروءةً، يقول أبو تمام:
فلم أجدِ الأخلاقَ إِلا تخلقاً
ولم أجدِ الأفضالَ إِلا تَفَضُّلا
يمتلك العم عبدالرحمن غفر الله له، (كاريزما) آسرة فشخصيته ليست عادية، فلا يمكن أن يختل توازنه لأي سبب من الأسباب! فمهما عظمت الحوادث التي تحيط به إلا أنه في كل أحوله وتحولاته متفائلٌ شاكرٌ الله -عز وجل-، وقد تجلّى لي ذلك بوضوح في بدايات مرضه عندما كان يستقبل زوّاره في المشفى بالابتسامة رغم كل الآلام العظيمة التي كان يعاني منها -رحمه الله- والتي أسأل الله أن يجعلها في موازين حسناته.
في آخر أيامه زرته صباح يوم عيد الفطر، وكان -يرحمه الله- يعجز عن الكلام بسبب تطور المرض الذي أنهكه، إلا أنه رغم كل ما كان يعاني منه لم يترك عادته في الترحيب بزواره وبمن يقصده، حتى عندما أعجزه المرض عن الكلام، كانت هذه الأهاليل تبرق في عينيه -طيب الله ثراه-.
تالله إن فقد العم عبدالرحمن من أكثر المُلمّات التي واجهتها أسرتنا، ولكننا مؤمنون بقضاء الله وقدره، وصابرون على ما ابتلينا به، كيف لا يكون ذلك وقد وعد الله الصابرين بالخير والأجر العظيم، يقول الله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} (155، و156 سورة البقرة).
إن سيرة العم عبدالرحمن بن محمد الفيصل تحوي الكثير من المواقف النبيلة، والعبر الراسخة التي من شأنها أن تجعل الإنسان يغير كثيرًا من قناعاته في هذه الحياة، والله أسأل أن يوفقني إلى كتابة شيء من سيرة هذا الرجل النبيل، فهي أحد مشاريعي في قابل الأيام، وأطلب منه سبحانه أن يعينني، ويسعفني بالوقت والعزيمة لإتمام ما نويته، وفي نهاية هذا المقال، أدعو الله العلي القدير أن يرحم العم عبدالرحمن بن محمد الفيصل، وابنه محمد الذي غادرنا -رحمه الله- هذا العام، وأسأل الله أن يسكنهما فسيح جناته، وأن ينزلهما منزلاً مباركًا في الفردوس الأعلى من الجنة، إنه سميع مجيب.