محمد الشارخ
تسعى الدول لتعظيم قوتها الناعمة كي تكسب مكاناً في القلوب والعقول والاحترام لدى الشعوب الأخرى. فالثقافة الفرنسية كانت وما زالت تمثل قوة ناعمة لفرنسا ولذا نرى تمدد النشاط الثقافي والتعليمي الفرانكفوني، واللغة الإنجليزية تمثل قوة ناعمة لبريطانيا كما يبين ذلك د. بندر الغميز أستاذ اللغويات التطبيقية في جامعة الملك سعود في مقالته بمجلة القافلة عدد سبتمبر/ أكتوبر 2020 «فإن تعليم الإنجليزية داخل بريطانيا يسهم في تعزيز اقتصادها بما يتجاوز ملياري جنيه سنوياً، كما أنه وفر أكثر من 26 ألف وظيفة». وهوليود أكبر قوة ناعمة لأمريكا ويمكننا اعتبار السينما والمسرح والغناء العربي قوة ناعمة مصرية بالإضافة للكتابات الأدبية المصرية في النصف الأول من القرن العشرين.
وللمملكة قوتان ناعمتان متكاملتان لا تحظى بهما دولة أخرى، الأولى هي الإسلام متمثلاً في الحرمين الشريفين والحجيج والمؤسسة الدينية الممولة جيداً بفضل الدولة والناشطة في العالم الإسلامي كما أن لها وجود ملموس في كثير من البلدان الأخرى. والثانية اللغة العربية وهي قوة ناعمة لم تفعل بعد كالأولى. فالعربية تتحدث بها أكثر من 22 دولة ولا تعتبر أي منها حاضنة رئيسية لها، ولذا لم يتم تحديث علوم اللغويات العربية لتلحق بالتطورات اللغوية في العالم التي فرضتها التقنيات الحديثة كتقنية الكمبيوتر والإنترنت وأدوات التواصل الكفية بحيث صار لزوماً لكل لغة حية تحويل قواعدها اللغوية إلى نماذج رقمية تكون الأساس لتطوير تطبيقات مختلفة لمتحدثي هذه اللغة مثل النطق الآلي والترجمة الآلية وتصنيف المعلومات وتصحيح الكتابة ..الخ . وكمثال لتخلف علوم العربية عن تطور اللغويات الحديثة في العالم هو عدم توفر معجم إلكتروني متداول وعصري، وهو أمر تنفرد به اللغة العربية من بين سائر لغات العالم حتى أن أستونيا التي يبلغ عدد متحدثي لغتها أقل من مليون ونصف المليون نسمة لديها معجم معاصر مفروض على الطلبة في التعليم الثانوي حفاظاً على كتابة أستونية سليمة. وللحفاظ على كتابة عربية سليمة يحتاج متحدثي العربية لمعجم إلكتروني معاصر بالإضافة لمصحح لغوي آلي (إملاءً ونحواً) وتشكيل إلزامي آلي Diacretization Mandatory تعمل مع كافة الأنظمة الدولية للتواصل وعلى كافة أنواع الأجهزة الكفية.
ولتوفير هذه التقنيات وتطويرها مستقبلاً لمسايرة التطورات العالمية في هذا المجال لابد من تأسيس مركز أبحاث وتطوير Research and Development Centre يمول تمويلاً يلبي حاجة البحث التقني. فالمنتجات العربية الحالية في هذا المجال تتم بتمويل محدود من شركات خاصة، ولذا فإن تطورها بطيء لا يجاري كافة التطورات التقنية الدولية. ومما يدعو للتفاؤل وجود مراكز متخصصة في المملكة لديها تراكم معرفي متميز باللغة العربية كما تتوفر كوادر أكاديمية متخصصة في اللسانيات الرياضية ComputationalLinguistics كما يظهر من مقالة مجلة القافلة عدد ديسمبر/ نوفمبر 2019. ومن هؤلاء وغيرهم يمكن تنفيذ خطة طويلة الأجل كجزء من رؤية 2030 لجعل المملكة الحاضنة الرئيسية للغة العربية وجعل اللغة العربية عموداً ثانياً مكملاً للقوة الناعمة السعودية بالإضافة للقوة الروحية للإسلام.
ولا شك أن تحقيق هذا الغرض يتطلب أموراً أخرى منها:-
أولاً:- إصدار تشريعات تلزم الطلبة قبل الالتحاق بالتعليم الجامعي اجتياز امتحان اللغة العربية شبيه بنظام SAT الأمريكي أو نظام TOEFL الإنجليزي وغيرها، فطلبة الجامعات هم الذين يقودون الدولة والمجتمع في المستقبل وإجادتهم اللغة الأم أي العربية تُسهل التواصل مع شعوبهم التي لا تتحدث لغات أجنبية بالإضافة إلى أنها تكسبهم مكانة في أرجاء العالم لا تقل عن روحانية الإسلام.
ثانياً:- إنشاء معهد عالٍ لتدريب مدرسي اللغة العربية على طرق ونظريات التعليم الحديثة مع تزويدهم بوسائل الإيضاح والأدوات التي تتيحها التقنيات الحديثة في التعليم. وفي برامج افتح يا سمسم التلفزيونية نموذج لتعليم الناشئة اللغة العربية السليمة.
ثالثاً:- تطوير أدوات الكتابة السليمة كالصرف الآلي والتشكيل الآلي والمدقق الإملائي ومصنف المعلومات وغيرها مع أدوات الترجمة الآلية والتخاطب الآلي من وإلى اللغة العربية للغات الأخرى، وكل هذه التطبيقات تقوم على تقنيات اللسانيات الرياضية والذكاء الاصطناعي.
رابعاً:- توفير معجم عربي للكلام المعاصر يحتوي على المفردات المستخدمة من أوائل القرن العشرين، وهذه تشمل ولا تلغي المفردات القديمة بل تتضمن معظمها وتضيف لها مفردات الحضارة والتقنية الحديثة التي يقرأها الناس في الصحف ولا يجدون تعريفاً لها.
كلمة ختامية
فمن غيرنا أحق باحتضان اللغة العربية وهي لغة القرآن الكريم، ووعاء الإسلام. كما أنها اللغة الوحيدة في العالم التي ما زال شعرها المكتوب منذ أكثر من 1500 عام يقرأ ويفهم في معظمه. إنها مصدر فخر وكبرياء لأنه لا يوجد لها مثيل في العالم، فلغة شكسبير لا يستطيع الإنجليز اليوم فهمها وكل مسرحياته قد أعيدت صياغتها بلغة إنجليزية حديثة، والروس لم يدونوا للغتهم معجماً إلا في أواخر القرن التاسع عشر بينما ألف العالم الفراهيدي معجم العين قبل حوالي ألف وثلاثمائة عام. لقد تكالب الفكر التغريبي على تحطيم سمعة اللغة العربية والمبالغة في الحط من قيمتها وقيمها حتى كدنا ننسى أنها مصدر فخر وكبرياء كما التماثيل الفرعونية لمصر والآثار الرومانية للإيطاليين وسور الصين العظيم للصينيين.
بالإضافة لذلك فإن وضعها ضمن خطط التنمية الوطنية يجعل منها بنية أساسية Infrastructure في تطوير الوطن وتوظيف أبنائه مثل أي مشروع تنموي آخر. فهناك مركز الأبحاث والتطوير ومعهد تدريب المعلمين الإقليمي، ومؤسسة برامج التليفزيون التعليمية، ودار المعاجم والقواميس، وهيئة الترجمة، وكلها تتطلب تخصصات علمية راقية.
وفوق ذلك فإن احتضان اللغة العربية كقوة ناعمة يخفف من غلو اعتبار المملكة دولة دينية فقط، إذ يضفي على الدولة تعريفاً تاريخياً حضارياً يمثل العمق الديني الاجتماعي الثقافي المتجذر في وجدان الشعب السعودي.
أخيراً.. تشير الإحصاءات الدولية إلى أن اللغة العربية هي اللغة الرابعة على الإنترنت بعد الإنجليزية والصينية والإسبانية، وإلى أن عدد مستخدمي الإنترنت العرب في الوقت الراهن حوالي 250 مليون مستخدم، وفي تقديري الشخصي منهم 1 % يتطلعون لكتابة عربية سليمة عند توفر أدواتها. وهذه سوق جديرة بالاهتمام.