أعود من جديد إلى الكتابة في شؤون التعليم وكيفية تطويره؛ لتواكب مخرجاته التطور العلمي العالمي والنهضة السريعة التي تشهدها بلادنا خلال هذه المرحلة.
ينطلق حرصنا على تطوير العلم ووسائله ومخرجاته من إيماننا بضرورته وبحاجة أبناء وطننا الماسة إلى هذا التطوير، لنرتقي بالإنسان والوطن، وتكون عملية التطوير حقيقية تراعي المرحلة الحالية، من خلال ما يعيشه الوطن من حال نهوض سريع في شتى المجالات، وكذلك ما يشهده العالم من تقدم علمي وتقني.
وإذا أردنا للتعليم عندنا أن يتطور ويسهم في تقديم أجيال للوطن يمتاز أفراده بالطموح العالي والتفكير السامي، فعلى المعنيين بهذا الملف إعادة هيكلة الدراسة من جديد وتعديل ماهية طريقتها في المراحل الثلاث، وصولاً إلى التعليم الجامعي، وكذلك إعادة النظر في المناهج المقدمة، التي يجب أن تكون ملائمة لهذه المرحلة.
وعليه يجب أن يكون التحرك في التطوير وفق دراسة ميدانية عميقة تهدف إلى توفير ما يتطلبه هذا العصر من أدوات؛ بحيث تلبي العملية التعليمية متطلبات الزمن الحاضر وما يحتاج إليه وعينها على المستقبل.
وقبل كل شيء يجب أن يركز التعليم على الرقي بفكر الإنسان، ويعمل على تدريب العقول الناشئة على طرائق التفكير وأنواع الذكاءات، لينتج أجيالاً تفكر وتستنتج وتحلّل وتتأمل وتخترع...
نحتاجُ إلى خبرات متراكمة متسلحة بالوعي والإبداع، تكون هي الأدوات التي تقرر وتدرب، وكذلك مهم جداً الاطلاع على بعض تجارب الدول المتقدمة في مجال التعليم والاختراع، لكي نقف على تجاربهم ونأخذ منهم بعض الأفكار التي نرى أنها سوف تناسب المرحلة التي نعيشها، ونعيد استنساخها والإضافة إليها حتى تكون ملائمة لظرفنا المكاني والزماني. وتأتي أهمية هذا الجانب من أننا نعيد به صياغة الأفكار التي خرجنا بها من تجارب الآخرين، ونحللها ونعيد تقديمها بقالب جديد بمثابة فكرة جديدة ورؤى بعيدة.
وللأسف، فإني من خلال اطلاعي على أحوال بعض الخبراء الذين ابتعثتهم الوزارة للوقوف على تجارب بعض الدول، وكيفية التعليم عندهم، أجدهم قاموا بالزيارات والاطلاع، ثم نقلوا تجارب الآخرين كما هي؛ كيف يدرسون؟ وكيف يقضي الطلاب أوقاتهم؟ هذا فحسب! وكأنه كان آلة تصوير يلتقط المشاهد من هنا وهناك.
من الصعب جداً أن تحدث الفائدة بهذا الشكل؛ مجرد «كاميرا» نقلت لنا مشاهداتها. وكيف لنا أن ننجح أو تتحقق لنا الفائدة من خلال تجارب الآخرين ونحن نقلدها كما هي؟ بهذه الطريقة سنكون إما فاشلون في تطبيقها، بحكم اختلاف الثقافات وطبيعة الحياة والمجتمعات، وإما سنكون عبارة عن نسخ مشوهة بفضل التقليد الذي يكون دوماً باهتاً خالياً من رونق الإبداع. نريد الاطلاع على تجارب الآخرين دون محاكاتها كما هي، بل نطلع من أجل أن تكون هناك كمية من الأفكار والرؤى التي ننطلق منها بفكرة جديدة تناسبنا، وتكون الانطلاقة تدريجية وفق خطة محكمة تبنى على مدى سنوات، وتكون الخطة على مراحل، وكل مرحلة لها أهداف تتحقق، ونتوقف عند نهاية كل مرحلة لإيجاد حلول للصعوبات التي واجهت التطوير في كل مرحلة.
في المرحلة الحالية التي يعيشها الوطن، من نهضة متسارعة في جميع المجالات، يحتاج إلى عقول تفكر وتخترع؛ لذلك فإن التعليم يحتاج إلى التطوير الفعلي من ناحية تطبيقية عملية، وليس فقط من خلال التنظير أو الاعتماد على الأرقام والإحصاءات.
ولن يحدث التطوير إلا عندما نلمس نقلة نوعية من حيث المخرجات وقفزة هائلة واضحة في التعليم العام والتعليم العالي.
والمشكلة التي تقف حجر عثرة في طريق تطوير التعليم هي من ناحية تنفيذ بعض الاختبارات والبرامج التي تهدف إلى «القياس» و»التحصيل»، حتى تكون أرقامها ونتائجها انطلاقة للبرامج التعليمية التي تصب في مصلحة إصلاح الخلل وحل المشكلات.
بعض البرامج والاختبارات هي لقياس مدى تفكير الطلاب، وتبحث عن قياس كل فرد، وكذلك معرفة إلى أين وصلت المرحلة التعليمية؟ وما المؤثرات التي تعوق من تحصيل الطالب؟
لا أعلم السر وراء الضغط على المدارس من قبل المعنيين من إدارات ومكاتب للتعليم لكي تتسابق في حصول مدارسها على نسب عالية بطرق مضللة! فهنا ضاعت الأهداف التي يسعى البرنامج إلى تطبيقها؛ بسبب الأنانية والفوز بالصدارة، فوزارة التعليم يهمها في المقام الأول أن تقيس برامجها احتياجات الميدان وأهدافها بعيدة المدى، ولا تطلب من الإدارات التابعة لها سوى تدريب أهل الميدان لينفذوا هذه البرامج ويتحقق الهدف المنشود... لذلك أرى أن ثمة حلقة ضائعة بين المدارس والإدارات والوزارة، وكل ذلك لأن كل مدرسة أو مكتب أو إدارة تريد أن تحصد التميز بأي طريقة، حتى لو كان حصاد التميز على حساب الطالب.
ثمة عوائق كثيرة تقف حائلاً أمام مشروع الوزارة الكبير، ومن أهمها تواضع بعض المدربين، ولا أعلم عن آلية اعتمادهم حتى أصبح بعضهم يجمع مادة تدريبية ويقرؤها على المعلمين بطريقة سريعة، بل إن بعض المواضيع لا يعلم عنها المدرب ولا المعلم، وتمضي الدورة سريعاً دون فائدة تذكر بسبب سوء التخطيط لهذا الركن المهم في عملية التطوير... فلا بد أن تعيد المعاهد المهتمة بهذا الشأن النظر في اختيار المدربين أصحاب الكفاءات العالية والمواضيع التي تخدم أهل التعليم.
أتفق كثيراً مع السعي إلى تطوير المعلم، ولكن من خلال آلية واضحة وبرامج تدريبية يستفيد منها المعلم وتصل إليه بكل يسر وسهولة.
ومن الصعب جداً أن يحضر المعلم دورة تدريبية يكون المدرب الذي أمامه يقرأ له التعريفات والمصطلحات فقط، ومعظم الدورات التدريبية تنفذ بهذه الطريقة، وللأسف.
أولاً علينا أن ندرك أنه في عملية التطوير والبرامج الموجهة يجب أن يكون الطالب هو المحور الأول، وبخاصة في التعليم العام.
هناك أشياء كثيرة لا بد أن تنظر إليها الوزارة بعين ثاقبة، وأهم شيء أن تزيد الوعي لقادات التعليم في إداراتها ومكاتبها، وتؤكد لهم أن الهدف الأسمى هو الوصول بالطالب إلى درجات يكون فيها طموحه تخصصات نادرة وتخصصات يحتاج إليها البلد، ويجب أن ينفذ كل برنامج بدقة بعيداً عن اللهث خلف الإنجازات الشكلية؛ فالتطبيق الفعلي والدقة فيه أهم، ومع مرور السنوات، إذا طبق البرنامج أو الاختبار بشكل فعلي، سوف يتحقق الإنجاز، وسوف يكون الحصول على التميز أمراً سهلاً.
أجزم بأن كل خطوة تخطوها الوزارة يكون الهدف منها رفع مستوى التعليم وزيادة كفاءة كل من يقدمون هذه العملية التعليمية لأبنائنا الطلاب... لكن عليها أن تختار المسؤولين بدقة، وتهتم بجانب أن المسؤول لا بد أن يكون واعياً لهذه المرحلة المهمة وتنشئة أجيال تسهم في بناء الوطن المتنامي بشكل مبهر ولافت للنظر.
إن عرّاب التغيير هو سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، الذي يقود نهضة جبارة من الناحية الاقتصادية، وكل فترة يطلق مشروعاً جباراً؛ لذلك فإن المرحلة القادمة تحتاج إلى أيدٍ عاملة وعقول مبتكرة، وجودة عالية في الأداء في الأصعدة كافة.
فالوطن يبحث عن الكفاءات العالية والعقول المبدعة، ولا يتحقق هذا الشيء إلا من خلال التعليم، ويبدأ من المدرسة.
ورسالتي إلى الوزارة: ركّزوا على سبل الرقي بفكر الطالب ووعيه، وزيادة الطموح عنده منذ الصغر، وأعيدوا تشكيل القيادات التعليمية بما يناسب هذه المرحلة.
وأخيراً، كلمة حق أقولها: إن الوزارة تسعى جاهدة إلى تطوير التعليم - من خلال ما قرأت أخيراً - في تغيير نمط الدراسة في المراحل الدراسية، وهذا التغيير يدل على اجتهاد الوزارة في مجال تطوير التعليم، ولا ننسى نجاحها اللافت في عملية التعليم عن بُعد.
ومضة
التعليم الجيد يصنع جيلاً طموحاً مبدعاً ينير كل زوايا الوطن...