أساطير الأمم جزء من ثقافتها، ولا توجد أمة إلا ولها إرث طويل من حكايات تختلط فيها الخرافة والخزعبلات بالحقيقة، فالعقل البشري كان ولا يزال خصباً، يركض في ميدان طويل لا نهاية له، ومن هنا جاءت ثقافة أساطير الأولين عند الأمم.
والعرب كغيرهم من الأمم، تشكلت لديهم ثقافات وفق هذا المفهوم، ولعل تأثير الثقافات المهيمنة في تلك الأزمنة الغابرة كالوثنية البابلية والأديان السماوية السابقة للإسلام ساهم في تشكيل هذه العقلية التي أصبحت تتوارث هذه العقائد والحكايات التي نظر إليها وكأنها مسلمات لا تقبل النقد أو الانتقاد.
وعلى صفحات التاريخ برزت أساطير عربية شهيرة لم تغادر ذاكرة الأطفال، ولم تغدر بأذكار الكبار، وحملتها الألسن قبل الكتب لجيل بعد جيل، ومن أشهر الأساطير العربية أسطورة صلاح الدين والمصباح السحري، والتي عزز وجودها في المخيال العربي الإعلام عبر مسلسلات عربية كثيرة، وربما جنح العقل لتصديقها لأن الإنسان بطبعه يميل إلى المعجزات والقوى الخارقة للعادة ليتجاوز واقعه المكبل بقيود كثيرة لا يملك إزاءها إلا الاستسلام، ومن أشهر الأساطير أيضاً حكاية علي بابا والأربعين حرامي، وهي من قصص ألف ليلة وليلة، حيث اكتشف الفقير علي بابا أن كهف اللصوص يفتح بكلمة سحرية وهي «افتح يا سمسم»، وفيه الكنوز والجواهر، وهكذا تتوالى هذه الأفكار والمعتقدات جيلاً بعد جيل بشكل يصعب الفكاك من تأثيرها وأثرها، بل ربما مرت أجيال تعتقد وتؤمن بها على أنها حقائق لا تقبل الجدل.
وفي ذات السياق تبرز أساطير أخرى أرى أنها لا تقل عن أساطير الأولين وهي متمثلة في بعض الحكم والأمثال التي أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها سلبية، ومع إيماننا التام أن الأمثال والحكم هي موروثات ثقافية وأدبية تستحق الاحترام والتقدير، وتمثل مقطوعات أدبية فنية تستحق أن تنتقل من جيل لآخر لمضامينها الجميلة، إلا أن حديثنا سيقتصر على الجانب السلبي منها والذي يعزز العادات الانهزامية أو تلك التي تقفز على العادات والتقاليد الجميلة التي تعزز قيم الإسلام والعروبة، وحديثنا عن هذه الأساطير (إن صحت المقاربة) لا يختلف عن الحكم والأمثال القديمة أو الحديثة، ومن أشهر الحكم الانهزامية (من وجهة نظري) حكمة «من خاف سلم»، وهذا القول على ما يتضمنه من حكمة الحذر وعدم المغامرة إلا أنه يعزز مفهوم الحذر الزائد والخوف غير المبرر، وإيثار السلامة على كل شيء، وإن تعلق هذا الشيء بالمبدأ أو القيم أو الحق، وتداول مثل هذه الحكم بات على كل لسان حتى تحول الأمر إلى ما يشبه المسلمات التي لا تقبل التنازل، وأصبح مبرراً مقنعاً لسلوكيات تدعو إلى الانهزامية وربما لتنازل عن الحقوق، ومن الحكم الشهيرة أيضاً «حنانيك بعض الشر أهون من بعض»، وهي تدعو إلى الرضا على أية حال وتروج لقبول أنصاف الحلول وهذا ليس من شيم الأقوياء ولا من صفات الناجحين، ومن الأمثال المحلية «من حصّل شيء يستاهله»، وهي ليست صحيحة على أية حال، فليس كل من حصل على مركز أو منصب أو دورة أو شهادة فهو يستحقها بالضرورة، ولكن مثل هذه المقولات تعزز مفاهيم مغلوطة وتلغي فكرة النقد الموضوعي وتطالب بقبول الواقع كما هو دون اعتراض.
ولعل المتتبع لحال الأمة العربية بعد النكسات السياسية والاقتصادية التي مرت بها يدرك أن الأمثال والحكم ترتبط دائماً بالحالة النفسية للشعوب، ففي مصر الشقيقة مثلاً هناك مثل شهير «إذا فاتك الميري أتمرغ في ترابه»، ورغم ما قيل عنه إنه مثل قديم إلا أن تداوله بعد النكسة يشي بالحالة النفسية الانهزامية التي مر بها العرب عموماً، والتي تدعو بالتسليم للأوضاع الراهنة وإن كانت سلبية، وفي الخليج هناك حكمة متداولة وهي «يد ما تقدر تقطعها حبها»، وهي حكمة تنطوي على الغدر والانهزامية والتذلل، وهي بلا شك تعكس ما تمر به الأمة العربية من وهن وفتور في الهمم. وكذلك القول «اخطب لابنتك ولا تخطب لابنك» وكأن الثقافة الذكورية هي المهيمنة وتتجاوز الأخطاء والأخطار المحدقة بالأنثى.
ولعل المتتبع للحكم والأمثال القديمة والتي تضمنتها أشهر الكتب العربية مثل كتاب (الأمثال) للميداني، وكتاب (أمثال العرب) للمفضل الضبي وغيرها يدرك بجلاء ما تتمتع بها العقلية العربية من أنفة وكبرياء وإقدام، وكانت هذه الحكم والأمثال تعزز قيم النجاح وعلو الهمم والإبداع، وتكرس مفهوم الشجاعة والكرم والصبر لدى الشعوب، وهي نتاج الحالة السياسية والاقتصادية والعلمية التي مرت بها البلاد العربية في عصور التطور والازدهار، فلنتأمل بعضاً من هذه المقولات الخالدة ونرى الفرق يقولون «أدب المرء خير من ذهبه» وفيه دعوة للتحلي بالأخلاق الفاضلة، و»أعط القوس باريها» والذي يدعو للإيمان بالتخصص، و»عش عزيزاً أو مت وأنت كريم»، و»لا حسب كالتواضع ولا شرف كالعلم»، وكلها تدعو لمكارم الأخلاق، والإبحار في هذا الفضاء لا حصر له، حيث يمكننا من خلال تتبع هذه الأمثال والحكم معرفة الروح المعنوية التي تسيطر على الشعوب في تلك الأوقات التي قيلت فيها، فحينما كانت الأمة قوية وتتربع على أمجاد العز والكرامة كانت أمثالها قوية أبية تدعو للتفاؤل والهمة والشجاعة، وحينما كانت الأمم منهزمة ومتراجعة ظهرت أمثالها كمرآة تعكس خبايا أسرارها.
أمثالنا هي رسائلنا لأجيالنا.
** **
- منيف الضوّي