سهام القحطاني
«بلقيس تبقى النموذج الأشد سحراً لامرأة فتن بها الأقدمون، وما زلنا إلى اليوم نفتتن بها ... لكثرة ما امتزج فيها من حقيقة وخيال.»-كتاب الملكة بلقيس التاريخ والأسطورة والرمز- الدكتورة بلقيس الحضراني- خلّدها القرآن ومن قبله التوراة تردد اسمها كامرأة مؤثّرة في جميع الأديان السماوية وخاصة اليهودية بسبب قصتها مع النبي سليمان، ضُربت في كل المقدسات كمثال للعقل والحكمة والهداية.
هي كما ذكر الفخر الرازي «بلقيس بنت الهدهاد بن شرحبيل وكان أبوها ملك أرض اليمن، وإن اختلف المؤرخون في حقيقة هذا الاسم ودلالته.
ففي العبرية تعني «خليلة» وفي اليونانية تعني «فتاة» وفي الفارسية تعني «الجميلة التي تُضل الأتقياء»، والدلالة الأخيرة مؤشر لبعض الافتراءات التي لُفقت لها.
جميعنا كمسلمين نعرف جزءاً من قصة بلقيس ملكة سبأ مع النبي سليمان وقد كانت من أعظم نساء التاريخ وأكثرهن تأثيراً في السياسة في التاريخ القديم بسبب قوة سلطانها وتحكمها في تجارة العالم في عهدها، إذ كانت مملكة سبأ هي المصدر الوحيد للبخور والمر واللبان. يقول البروفيسور فرنر دلوم إن السبئيين في عهد بلقيس «لم يتحكموا في المنتجات فقط وإنما أيضاً في التجارة، إذ لم يكن هناك معبد أو بيت سواء في بابل أو مصر أو اليونان أو القدس أو روما إلا وهو بحاجة إلى هذه المنتجات القيمة ... وفي الوقت نفسه تجعل الذهن يستحضر وجود ملكات عربيات حاكمات الأمر الذي أصبح يشكل ظاهرة شاذة في عيون الحكام المعاصرين في الشرق الأوسط»-الملكة سبأ الرمز و الأسطورة-.
فقد شهدت سبأ في عهدها حضارة ثقافية وسياسية وحضارية عظيمة.
ولعل أبرز المسائل جدلاً التي تتعلق بسيرة الملكة بلقيس والتي حولتها إلى أسطورة هي مسألة أن «أمها كانت جنية»، هذه المسألة كما يقول كتاب «التيجان في ملوك حمير» «لوهب بن منبه» جعلت شعبها يرضى أن تحكمهم امرأة بحكم أن هذه الطبيعة الممزوجة بصبغة الأنس والجن تعني أنها تمتلك قوة خارقة ستحمي شعبها دائماً من كل شر.
وقصة الجزء الجني من خلق بلقيس كما تُحكى على لسان وهب بن منبه أن والد بلقيس وكان يُسمى «هدهاد» أثناء عودته من التجسس على معسكر عدوه صادف غلام أسود تحارب معه وقتله ليكتشف بعد ذلك أن الغلام هو خادم لسيد من أسياد الجن هرب منه ومكافأة لهدهاد قرر ذلك السيد من أسياد الجان أن يزوجه أخته وكانت تُسمى «رواحة بنت مسكن»، واشترط عليه عدم سؤالها أي شيء ومتى ما سألها سوف تختفي، ولدت تلك الجنية للهدهاد ولدين وبنت مات الولدان وظلت البنت «بلقيس».
عندما اقتربت وفاة الهدهاد والد بلقيس جمع وجوه حمير وأبناء ملوكهم وأهل المشورة فقال: «يا بني قحطان أما أنكم تعلمون رأيّ في بلقيس علي فإنها لا تُخطئ ما تشير به عليكم كيف تجون بركة رأيها؟ قالوا نعم، قال: و أنها أعقل النساء والرجال، قالوا نعم، قال فإني استخلفها عليكم، فقال له رجل منهم: أيها الملك تدع أفاضل قومك وأهل ملتك وتستخلف علينا امرأة إن كانت بالمكانة التي هي منك ومنا؟
قال: يا معشر حمير إني رأيت الرجال وعجمت أهل الفضل وسبرتهم وشهدت من أدركت من ملوكهم فلا والذي أحلف به ما رأيت مثل بلقيس رأياً وعلماً وحلماً مع أن أمها من الجن وإني أرجو أن تظهر لكم عامة أمور الجن مما تنتفعون به.. قالوا سمعنا واطعنا أيها الملك.»-كتاب التيجان في ملوك حمير وهبه بن منبه- تحقيق ونشر مركز الدراسات والأبحاث اليمنية-
وفكرة «الأم الجنية» يبدو أنها كانت فكرة شائعة عند حمير، فقد قالوا أن أم «ذو القرنين» كانت جنية».
ونسب العرب أصول بعض القبائل والأقوام للجن مثل قبيلة «جرهم» بزعمهم بأن هذه القبيلة تنحدر من أمهات جنيات، وقوم ثمود والعمالقة.
كما أن فكرة المرأة التي نصفها إنس ونصفها جنّ أو نصفها إنسان ونصفها ملاك كانت شائعة في ثقافة العرب وغيرهم من الشعوب.
ومناقشة مسألة الجانب «الجنيّ» للملكة بلقيس لا شك أنه مخالف للمنطق الإلهي والعلمي والفكري والمنطقي، فالله سبحانه وتعالى خلق الإنس والجان من نوعين مختلفين لا يُمكن اجتماعهما أو التزاوج بينهما وهو ما يستحيل بالضرورة حدوث أي تناسل.
وفكرة التزاوج بين الإنس والجن كانت فكرة شائعة عند العرب من خلال أساطيرهم، ويذهب مؤرخو الفولكلور أن الأساطير التي تتحدث عن التزاوج بين الإنس والجن جاءت للعرب من الفرس عندما كانت الفرس تحت سلطة ملوك اليمن ثم تسللت تلك الأساطير لتمتزج بالثقافة الشعبية للعرب ما قبل الإسلام.
وغالبا ما كانت «تتجلى» هذه الثنائية الهجينية لصورة «المرأة»، من خلال أساطير «الآلهة الأنثى» لدور المرأة في التغيير السياسي والتاريخي وكأن المرأة لا تمتلك القيمة والقدرة ضمن إطار كينونتها الطبيعية، بل في من خلال الكينونة الخاصة بالمهاجنة مع جنس آخر كالجن أو الملائكة أو حتى الشياطين، وهو ما يعني أن المرأة خارج خصوصية المهاجنة تلك لا تملك أي قدرة أو قيمة.
ولعل العرب أقاموا هذه الشائعة على الملكة بلقيس لحماية كرامة رجولتهم من حقيقة أن امرأة تحكمهم، فشائعة الجانب الجني تخرج بلقيس من كونها «امرأة طبيعية أقل درجة من الرجل» إلى كونها «استثناء من خلال أمها الجنية» هذا الجانب الذي من أجله وافق وجهاء حمير على أن تحكمهم امرأة، وبالتالي تُحصّن كرامة الرجل من أي إهانة -كما يعتقد- لأن امرأة تحكمهم وولية أمرهم وتجنب شر المساءلة تاريخية.
إضافة إلى سعي هذه الشائعة التاريخية في ضميرها الخفي أن ليست هناك امرأة حقيقية بالمعنى الطبيعي تمتلك قدرة العقل والعقل والحكمة والقيادة وصناعة القرار السياسي الرشيد.
كما أن بلقيس لم تسلم من افتراءات دُست في سيرتها التاريخية كان الغرض منها إثبات فشل المرأة في السياسة.
والأمر الأخير في هذه الشائعة التاريخية أن لو كانت بلقيس بهذه الطبيعة الغير سوية ما ضرب بها القرآن الكريم مثلاً؛ لأن الشذوذ في القرآن الكريم كان مقصوراً على الكفر والطغيان لا أصل الطبيعة.
إن قصة الملكة بلقيس ملكة سبأ التي قادت شعبها للنور والحق لهي قصة تُفند الباطل الذي أحاط بعدم قدرة المرأة على الحُكم والسياسية الرشيدة، قصة فنّدت خطأ أن الولاية السياسية لا تتوافق مع طبيعة المرأة وخصائصها، كل ذلك أباطيل دحضها النص الشرعي من خلال التجربة.
عندما نقرأ قصة ملكة سبأ في القرآن الكريم سنجد أن القرآن الكريم تحدث عنها باستخدام «لقبها السياسي» كملكة ولا شك أن هذا التركيز على لقبها السياسي فيه تشريفا لها لِم تميزت به من حكمة و عقل و رشاد، وتجويزا لتولي المرأة المقامات والمناصب السياسية وقدرة المرأة اتخاذ القرار الصالح العقلاني.
لقد وصف القرآن الكريم الملكة بلقيس بالمرأة العظيمة التي كانت تمتلك سلطانا قويا ومالا كثيرا ومكانة محبوبة عند شعبها، وهذه الصفات قد تجعل أي حاكم ينصرف عن الحق ويحاربه كما فعل فرعون والنمرود، لكن موقف الملكة بلقيس كان غير ذلك فقد عرفت الحق وآمنت به فكانت نجاة لنفسها ولقومها.
وهي إضافة إلى ذلك كانت تُدير حكمها في ضوء من الديمقراطية والتعددية.
وجاء في تفسير ابن كثير «وكان أولو مشورتها ثلاثمائة واثني عشر رجلاً وكل رجل منهم على عشرة آلاف رجل».
وما يدل على ذلك موقفها من رسالة النبي سليمان عليه السلام {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} (32) سورة النمل.
ولو قارنا بين موقفها هنا من الدعوة إلى الهداية وموقف غيرها مثل فرعون و موقفه من دعوة الهداية التي جاء بها موسى «قال فرعون {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} (29) سورة غافر
موقفان سياسيان لملك رجل قاد قومه إلى الهلاك بعناده وغروره وملكة امرأة قادت قومها إلى النجاة والفوز في الدنيا والآخرة.
هذه هي المنطقية في الحكم على قدرة البشر على القيادة والصلاح، قدرة تتعلّق بالنشأة والعلم والمعرفة والحكمة، لا بالنوع والجنس.
ستظل بلقيس الوجه الحقيقي للمرأة العربية المشرق رغم كل الأزمان المظلمة والتي ما زال ظلام بعضها قائماً، سيأتي اليوم الذي سيكتمل فيه الشروق ولعله من أنظارنا قريب.