قد يبدو العنوان غريباً بعض الشيء فالجمال مرتبط بأذهاننا بكل شيء إلا الرياضيات. فعلم الرياضيات يعتمد على معادلات جافة، قد يصعب إخضاعها لمقاييس الجمال المعتادة. وقبل أن نذهب إلى مكامن الجمال في المعادلات الرياضية، لعلنا نعرج إلى منبع الجمال وناصيته وهو فن الرسم، حيث الرسام الأمريكي الشهير ساي تومبلي الذي توفي في عام 2011 تاركاً وراءه العديد من الأعمال الفنية.
أحد أعمال تومبلي تم بيعها بأكثر من 70 مليون دولار وكان اسم هذه اللوحة (سبورة). هذه اللوحة تتكون من خطوط للطباشير ترسم دوائر متقاطعة تبتدئ من يسار اللوحة وتنتهي في يمينها. وهذه اللوحة تعد واحدة من سلسلة لوحات باسم (سبورة) جميعها تحمل تقريبا نفس الفكرة. وهنا تكمن عدة أسئلة: أين يكمن موطن الجمال والتفرد في هذه اللوحات؟ كيف اقتنع من دفع هذا المبلغ الضخم فيها؟ وماذا لو قدمنا الطباشير لطفل وطلبنا منه تقليد هذه اللوحة، فهل يمكن أن يقدرها المتخصصون ويدفع الأثرياء الأموال الطائلة لاقتنائها؟
وإذا كانت أعمال هذا الرسام قد لقيت تقديرا ورواجا، فكذلك فعل المعماري الأمريكي فرانك قيهري المولود سنة 1929 ولا يزال على قيد الحياة. هذا المعماري استطاع إقناع الأثرياء أيضا ببناء مخططاته المعمارية. مع أنك قد تراها وكأنها مبنى متصدع أو آيل للسقوط. بل وفي أحيان أخرى، كأنك أمام مجموعة من الصفائح الحديدية متراكمة على بعضها في مرمى النفايات. وقد تتساءل، هل يمكن الدخول والتجول وسط هذا الركام؟ بطبيعة الحال يمثل تومبلي وقيهري مدارس متخصصة في مجالهما ويتم دراسة أعمالهما وتحليلها وتقيمها بما تستحق من أهل التخصص.
كان أهل الفن بأنواعه ولا يزالون يتنافسون في تطوير وبلورة مكامن الجمال التي قد يفهمها أو لا يفهمها غيرهم، وكذلك أهل الرياضيات الذين يرون في معادلاتهم جمالاً منقطع النظير. حيث تم سؤال عدد من المتخصصين بعلم الرياضيات في أحد المؤتمرات هذا السؤال: ما أجمل معادلة رياضية في رأيك؟ فأدلى كلٌ برأيه، وتم جمع وترتيب تلك المعادلات حسب تكرارها. وقد كانت المعادلة الأولى في الترتيب لعالم الرياضيات (ليونارد أويلر) وهي: e(i )+1=0. ويطلق على هذه المعادلة محدد أويلر. ويَرمز فيها الحرف e (إي) إلى الأس الطبيعي، أما الحرف i (آي) فهو العدد التخيلي جذر سالب واحد. أما (باي) فيمثل نسبة مساحة الدائرة إلى محيطها. وقد ابتكر الرياضيون طرفة حول هذه المعادلة، وهي قصة شجار حدثت بين (آي) و (باي) حيث قال الأول للثاني كن طبيعيا (بدون كسور)، فرد الثاني كن حقيقيا، فردت عليهم (إي) تعالوا وانظموا إلي لِنُكَون الوحدة السالبة. وللتعرف أكثر على مكامن الجمال في هذه المعادلة، فيمكن كتابة الجملة التالية على اليوتيوب: The most beautiful equation، لتأتي الشروحات من كل حدب صوب. ويمكن كذلك رسم قلب أمام هذه المعادلة الجميلة بكتابة المعادلة التالية: (x^2+y^2-1) ^3=x^2y^3
لنأتي الآن لصاحب المعادلة ليونارد أويلر لعلنا نتلمس الجمال في سيرته. فقد كان أويلر غزير الإنتاج حيث ملأت مجموع أعماله 92 مجلداً. وقد ولد في بازل بسويسرا وقضى معظم حياته في سان بطرسبيرج في روسيا. وعلى عكس الكثير من العلماء في عصره، كان أويلر متدينا وذلك يظهر في رسالته (الدفاع عن الوحي الإلهي ضد اعتراضات المفكرين الأحرار). وفي الحادي والثلاثين من عمره فقد أويلر إبصاره في عينه اليمنى وقال بعد ذلك (الآن لدي قدر أقل من الملهيات) وحين بلغ التاسعة والخمسين فقد بصره تماما. والعجيب أنه بعد إصابته بالعمى زادت انتاجيته البحثية فأصبح ينتج بحثا (ورقة علمية) كل أسبوع. توفي أويلر سنة 1783 عن 67 سنة. تاركاً وراءه العديد من الأعمال الرياضية التي لا تقدر بثمن. فلا يمكن لطالب في تخصصات الرياضيات أو الفيزياء أو الهندسة بجميع أقسامها إلا وقد مر عليه أويلر. سواء في نظريات الأعداد أو الميكانيكا أو الفلك أو الموائع أو حتى المقذوفات.
وختاما، فالجمال هو أمر نسبي في تقييمه، ولا ينفي ذلك وجود أدوات تسويقية تسهم في رفع وخفض القيمة الجمالية لبعض الأشياء. ورغم ذلك فحين لا نرى الجمال في بعض الأشياء فلا يعني ذلك انتفاءه منها. ولكن علينا أن نصنع الجمال في أرواحنا ابتداءً وسنراه فيما بعد سواءً في خربشات تومبلي أو صفائح قيهري أو حتى معادلات أويلر أو غير ذلك. وكما يقول إيليا أبو ماضي:
(أي هذا الشاكي وما بك داء
كن جميلا ترى الوجود جميلا).
** **
ا.د. عبد العزيز سليمان العبودي - جامعة القصيم