د.محمد بن عبدالرحمن البشر
الحطيئيون ليسوا هجائيين وحسب، وإنما يقدحون في هجائيتهم قدحاً قبيحاً، يتجاوزون فيه كل قيد، ولاشك أن الحطيئة الشاعر والهجاء المشهور ربما كان أولهم، أو أشهرهم، لكنه بلا ريب ليس أقبحهم هجاء وتجاوزاً، غير أنه عاش في صدر الإسلام، وكان عصراً رائعاً نقياً، لا يسمح بالهجاء، وأهله لا هم لهم سوى التفقه في الدين ونشر الإسلام، من خلال التمسك بما أمر الله به، والتحلي بمكارم الأخلاق، الذي جاء رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- ليتممها، لهذا فإن تجارة الهجاء نافقه في ذلك الوقت، وعندما ظهر الحطيئة، وقال ما قال في أقوام، وأفراد، استدعاه الخليفة عمر بن الخطاب، وأنبه على ما فعله، وحذره عن العودة إلى منهاجه في شعره.
لكنه هجاء لا يصبر عن ذلك، لهذا فلما لم يجد من يهجوه، هجا نفسه في قصديته المشهورة ومنها:
أَرى لِيَ وَجهاً شَوَّهَ اللَهُ خَلقَهُ
فَقُبِّحَ مِن وَجهٍ وَقُبِّحَ حامِلُه
وهجا أمه قائلاً:
جَزاكِ اللَهُ شَرّاً مِن عَجوزٍ
وَلَقّاكِ العُقوقَ مِنَ البَنينا
تَنَحَّي فَاِجلِسي مِنّا بَعيداً
أَراحَ اللَهُ مِنكِ العالَمينا
أَغِربالاً إِذا اِستودِعتِ سِرّاً
وَكانوناً عَلى المُتَحَدِّثينا
أَلَم أوضِح لَكِ البَغضاءَ مِنّي
وَلَكِن لا إِخالُكِ تَعقِلينا
لا أعتقد أن هناك إنساناً يقول في أمه مثل ذلك، لكن ربما أنه شعر سطره الرواة، كما هي عادة بعضهم، فإذا اشتهر أحد بأمر ما لا يكتفي الرواة بذكرها، وإنما يزيدون ويبالغون، حتى يكون القول أكثر جذباً، ولو أنه قد قال ما قال، لحوسب على ذلك في زمن تمثل فيه الاخلاق والقيم، أسمى وأعلى المراتب، ولاشك أن البر بالوالدين واحترامهما في مقدمة تلك القيم، ولا أعتقد أن الحطيئة سوف يقول ذلك، وهو يقرأ قول الله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}.
أخذنا الحطيئة بعيداً عما نريد الحديث عنه، لكن الهجاء والهجائين، كانوا موجودين، في العصر الجاهلي وما بعده، وهناك هجاء لا يتجاوز المألوف، وهناك قدح يتجاوز الحدود والقيود الأخلاقية.
هناك شعراء وناثرون، يطرقون باب الهجاء، لكنهم لا يفحشون في قولهم، وإن بدا منهم ذلك فإنما تكون شذرات لسبب نفسي، وحالة معينة محدودة، من أولئك ابن زيدون، حتى أنه قال في أبي عبدالله بن القلاس، عندما كان يزاحمه في حب ولاّدة ، قبل أن ينسحب من المنافسة، فقد قال أبياتاً في بعضها تلميح لا تصريح بهجاء ابن القلاس وحبيبته ولادة بن المستكفي، ومنها قوله:
وَلا تَطِعِ الَّتي تُغويك
فَهِيَ لِغِيِّهِم أَطوَع
إلى أن قال:
فَإِنَّ قُصارَكَ الدِهليز
حينَ سِواكَ في المَضجَع
فهو بهذا قال هجاء في ولادة، وابن القلاس عن طريق تلميح وليس التصريح، وفي شعره من ذلك كثير، أما ولادة فكانت تقول شعراً فاحشاً في هجاء ابن زيدون دون رادع أدبي، وهو ما يشين الرجال، فكيف بامرأة بنت خليفة سابق، فاسق كما يقولون عنه.
لكن هناك حطيئيين مفحشين في شعرهم نساء ورجال، مثل بشار بن برد، وابن سعيد، وأبو نواس، وأبو محمد الطيب المصري، وأبو علي حسن بن هاده، وغيرهم الكثير، أما المتنبي فهو يؤلم لكنه لا يفحش.
في عصرنا هذا لاشك أن المنابر قد تنوعت وكثرة، وأصبحت متاحة لكل عالم وجاهل، وغافل وعاقل، وصادق وكاذب، ومجبور ومأجور، ومسترق ومسترزق، ومستلمح وهو ثقيل، ومستقبح وهو جميل، فاختلط الحابل بالنابل، وزاد الصيد، واحتار الصياد.
هذا ميدان واسع في جميع أقطار الدنيا، لكن بعض الرعاع ينساقون دون فهم أو إدراك خلف كل ناعق يستهويهم قوله، أو يأنسون بحسن لفظه، ويزيد الهرج والمرج، وتختلف الآراء، وتكثر التناقضات، ويختلط الحق بالباطل، والصدق والكذب، إلاَّ ذوي الحجى، والأدب والنهي، فيميزون بين ما يحسن انتقاءه، وما يليق قوله.
عندما ينطق مسؤول ما بكلام لا يليق، وقول لا يفيد، فإن ذلك يدل على عدم الكياسة، واحترام الكرسي والرئاسة، لكن الحمق يظهر ما يخفي، فيبدو ويتجلى، والخاسر هو القائل لا غيره.
المشكلة أن الأصوات النشاز، والقول الخارج عن القيم والأدب، أصبح يسمع من هنا وهناك، وهذا بلا شك يضر، ويزيد الأحقاد، واللوم ليس على القائل، فهذا ما اختاره لنفسه، ونم عن خلقه وما تخفيه نفسه، لكن العتب على من يلهث على سماع مثل تلك الأقوال ونقلها والتأثر والتأثير بها.
الحطيئيون ربما يزيدون، وينتشرون في كل مكان في هذه الأرض الفسيحة، فليس للفضاء حدود، وليس عليه قيود إلاَّ ما شاء الله، فلهذا فإن الحصانة يجب أن تكون ذاتية، والحماية منزلية، من خلال التربية، والعودة لمكارم الأخلاق.