لقد طاب نشراً د. فهد المغلوث أستاذ النَّحو والصَّرف والصَّوتيَّات المساعد في جامعة حائل الغرَّاء إذ نشر مقالاً في مجلة (الجزيرة الثَّقافيَّة) بتأريخ: 17/ 8/ 1441هـ جاء عنوانه (السُّداسيُّ اللغويُّ)، ومحتوى المقال هو من معنيَّاتي إذ هو يروم تخصُّصاً أنا معدود من جملته وحملته، وفرد من أفراده؛ لذا لمَّا أن جمّل المقال بما حمل استكتبتني حوايته فكتبت أكتوبة جاء عنوانها (تعليق وتعقيب على السُّداسيِّ اللغويِّ) نشر في المجلَّة نفسها بتأريخ: 9/ 9/ 1441هـ قدَّمت في أكتوبتي نظراً فيما كتبه، وتقييدات على ما سطَّره، وطارحت فيه د. فهداً مسائل وسؤالات بدت لي على سالف مقالته، وودت أن يستشفع ذلك بردٍّ على ذلك وجوابٍ عمَّا طارحته إيَّاه، ولمَّا لم يكن ذلك بمضي جُّمعتين فصاعداً صدفت عنه وصرفت التَّتبُّع لما ينشر، غير أنَّ د. فهداً بعد ذلك عقَّب على تعقيبي بمقال نشر بتأريخ: 27/ 10/ 1441هـ ولم أعلم به، جاء عنوانه (تعقيبٌ على تعقيبٍ)، وإنِّما اطَّلعت عليه من غير قصد ولا تقرٍّ ليالي عيد الفطر السَّعيد هذا العام (1442هـ) فلمَّا كان ذاك أنست به لعلَّي أن أجد الأجوبة، وشكرت د. فهداً على تعقيبه، وقرأتُّ ما عقَّب به ورغبتُ عن أن لا أكتب شيئاً، لبعد العهد بحديث الشَّأن، غير أنَّ رحم العلم الَّذي يُنسب إليها د. فهد وتَطلاب الفائدة بياناً للحقيقة، وبيان التَّصور الصَّحيح للمسألة توجب وتلزم بالتَّعقيب لا التَّثريب ولاسيَّما أنَّ د. فهداً بعد مضي ما يقارب العام؛ أي بتأريخ: 24/ 9/ 1442هـ أشار عبر حسابه في المغترد: (تويتر= Twitter) إلى مقاله هذا (تعقيب على التَّعقيب) مذكِّراً بما في تعقيبه من الفوائد؛ لذلك راجعت النَّظر في المقال فأعزمني ذلك أن أدوِّن أُّكتوبةً أعقف بها على ما أراه محلَّ توقُّفٍ ونظرٍ في نقاطٍ عدَّدها هو، وسمَّيته تعقيفاً لأنَّه ثني نظرٍ على ما طرحته في الأكتوبة الأولى على مقالته الأصل، وذلك أنَّي وجدتُّ د. فهداً - سلَّمه الله - لم يجب عمَّا سقتُ من سؤالات، ودوَّنت من تعقيبات على (السُّداسيّ اللغويّ)، ويوحي بقوله وحثِّه على الاطِّلاع على ردِّه أنَّه أجاب وأفاد.
وهذه التَّعقيفات والتَّقييدات هي ما يأتي:
1- أفاد عن عنوان المقال بأنَّه من تسمية الجزء بالكلِّ، ونظَّر ذلك بباب (أفعال المقاربة)، قلتُ: هذا لا وجه له، وإذا كان ذلك صادقاً على المقاربة فهو غير صادقٍ على (السُّداسيِّ اللغويِّ). وعلى ذلك يقال: السُّداسيُّ هو الجزء واللغويُّ هو الكلُّ أم العكس أم الوجه السَّادس هو الكلُّ والوجه الأوَّل هو الجزء أم العكس؟ فالأمر مشكل ولا ينهض بهذا التَّوجيه مع عدم إغفال الإيرادات الَّتي أوردتها عليه في تعقيبي السَّابق في هذه الجزئيَّة. والنَّحويُّون لمَّا كتبوا أحكام جمع المذكر السَّالم، وما ألحق به لم يسمُّوا ذلك بذلك؛ أفلا يسعنا ما وسعهم ويكفينا صنيعهم؟!
2- ما جاء من ذكر الإحاطة إذا فهمتُه صواباً فالمراد به عنوان المقال؛ أي: أنَّك ذكرت السُّداسيَّ للإحاطة والشُّمول، والمتخصِّص - كما تحب تسميته - عقَّب من قبل أنَّ الأوجه في الحقيقة خمسة لا ستَّة، وهي للملحق بالجمع لا للجمع، وبالمسمَّى به لا به، وهي بالمحمول على الجمع ألصق، وأمَّا ما جاء من ذكر الأقلِّ والأكثر فليس الأمر عائداً إلى الرَّغبات وما يُّشتهَى، بل مردُّه إلى ما ورد عن فصحاء العرب، وما قرَّره علماء الفنِّ. وقد ذكرتُّ في تعقيبي السَّابق أنَّ مجموع ما ذُكر في المقال الأصل هي أربعة أوجه فقط، وأنَّ ثلاثةً ممَّا سيق في المقالة هي وجه واحد فسُدِّست العدَّة تكثيراً وتكثُّراً لا حقيقةً، وعليه فتسميته بالسُّداسيِّ أصلاً منازع فيها، هذا دون النَّظر في دلالة العنوان على المراد وصدقيَّته، وهنا يصدق قولهم: تثبيت العرش قبل النَّقش.
3- إذا كان الحديث عن النَّحو والصَّرف والإعراب وذكر السُّداسيُّ في محضر هؤلاء فلا ينصرف إلا إلى المصطلح الصَّرفيِّ؛ أي: ما عدَّته ستة أحرفٍ، فالأمر مخصَّص من قبلُ وهو مصطلحٌ للقوم وليس وهماً، وقيده باللغويِّ مربكٌ لا محرز، وربَّما يعدُّ مَخرجاً لكنَّه غير مُخرجٍ ولا رافع المعتبة ولا دافع الملامة؛ إذ لا يُعرف في علم النَّحو أنَّ ما له أوجه إعرابيَّة أن يسمَّى بعدد مجموعها منسوباً إلى بناء (فُعال) ويوصف باللغويِّ، فهل ما كان له ثلاثة أوجهٍ يقال له: الثُّلاثيُّ اللغويُّ؟ أمعهود هذا؟ أورد ذلك؟ فهذا غير معهود فيما أعلمه، وإذا كان القوم سمَّوا علومهم، وبيَّنوا أصنافها وأنواعها وأحكامها = فما الفائدة وما العائدة من ابتكار مصطلح جديدٍ للَّذي فيه أكثر من وجه بتسميته بعدد مجموعها ووصفه باللغويِّ؟ وما الحجَّة الَّتي تنصر هذا المصطلح؟ وما الدَّاعي إلى هذا الاصطلاح أصلاً؟ وذلك أنَّ العلوم إذا استقرَّت على مصطلحات فمن المنتقد اصطناع مصطلحات جديدة لأشياء مسمَّاة، بل هذا يسمَّى عبثاً في المصطلحات، فحاله كحال من يتقصَّد أخذ مصطلحات بعض متقدِّمي النَّحويِّين قبل استقرار المصطلح، ويستعمله ويتكلَّم به، وربَّما يستدلُّ على المعترض عليه بأنَّ هذا ما استعمله العالم الفلانيُّ = فهذا كلُّه عبث لا حجَّة لأيِّهما بفعله ذلك، إذ ليس فيه استجلاب فائدة ولا استدفاع مشكلة، ولا توضيح غامضة، بل هذا إغراب أو قلَّة حيلة أو تمييز للذَّات ولو بالتَّفحيم، وما لا فائدة فيه تركه فائدة.
4- قلتُ: الأمر لا يحتاج إلى استقراء؛ لأنَّ الكلمة ليس فيها خطأ في الصِّياغة والبنية، بل خطؤه هو توظيفه بالمعنى الَّذي أنشِئ عليه المقال هو الخطأ، وما ذُكر وسيق من استعمالات في مقال التَّعقيب هي في بابها، ممَّا جاء في أوصاف ثيابٍ وأطوالها أو بهائم وأعمارها في معاجم وكتب فقهٍ، ويقال كذلك في الهندسة: سداسيُّ الأضلاع، وفي أفرقة لعب الكرة خماسيَّة وسداسيَّة، وغير ذلك. وما ذكره رضيُّ الدِّين هو أصل ذلك البناء أنَّه مصوغ من (فُعال) منسوب إلى العدد، فالكلام ليس على البنية، فالبنية صوابٌ، وإنَّما - كما أسلفتُ - على توظيفه في غير ما هو له، ولا يدلُّ عليه ولا يؤدِّي المراد من البنية ولا يحقِّقه.
5- التَّمدُّح بأنَّ إدراك بُعدِ الموضوع مخصوص بمن فقه الرَّمزيَّة لا داعي له، لأنَّ العنوان لو كان (المرونة والسَّعة) لكفى عن هذه الرَّمزيَّة، ولا يحتاج الأمر في ثني مخطِّئ وجهٍ نحويٍّ جائزٍ في العربيَّة أن نشعبه بأن نرمز له بذلك ونركِّب الرَّمزيَّات، بل يصوَّب له مباشرة بأنَّ ذلك مرويٌّ ووارد عن العرب، وهو جائز في النَّحو، ومَن علم حجَّة على من لم يعلم.
6- ظهر لي أنَّ المراد بمقولة: (يوسِّع حاجراً) يوسِّع مضيَّقاً، والحاجر المراد به المحجِّر، فصاغه من الثُّلاثيِّ وترك المضعَّف فأشكل فهماً واجتلب وهماً. وللبيان: فـ(واسع) المراد بها أمر واسع لا شخص واسع إذ لا يوصف الشَّخص بذلك، أمَّا هنا فـ(حاجر) يراد بها الشَّخص المضيِّق، والمضيِّق يوصف بالمحجِّر لا بالحاجر، وعلى ذلك فلا يقال -إذا أريد التَّوسع في أمر ما يضيِّقه شخص ما - هذا يوسِّع حاجراً، وكذلك لو قيل: يوسِّع محجِّراً لم يستقم ذلك، ولا يقال أيضاً: يوسِّع على محجِّر؛ لأنَّ التَّوسيع للأمر لا للشَّخص، والصَّواب أن يقال: يوسِّع محجَّراً أو على محجَّرٍ بفتح الجيم على المفعول؛ أي: أمراً محجَّراً. وألتمس للكاتب عذراً وليس بناهض ولا شافع له أنَّه ربَّما رام مقايستها وقولبتها على قولهم: (يحجِّر واسعاً)، ولو ساوقها معها لكان له ذلك، أمَّا إفرادها فهو مشكلٌ صياغة ودلالة وتركيباً. وكنت لا أرغب في ثرب ما في المقالة الأولى من تراكيب ملبسة المعنى وعبارات مشكلة الدَّرك كمثل: (ولا تمتطي إلا ما قد ذلَّلته بركاب السَّهر والتَّعب يستعصي عليك وجه تكلَّمت به أقوام قد بادوا في العصور الأولى لم يصلنا، أو تبددت جنباته مع مرور الزَّمن ظهر بعدها مشوَّهاً لا يلقى له بال)، (أو احتضنته أيادي العلم يترعرع بين كنفاتها حتَّى لاح برقاً يتلألأ) = أسئلة: الآن الممتطَى المذلَّل أهو المستعصي؟ والوجه الَّذي وصلك واستعصى أهو الَّذي لم يصل بل باد مع القوم البائدين؟! والمحتضن أهو المشوَّه الظَّاهر أم غيره؟ وإذ احتُضن هل ذهب تشويهه لمَّا لاح برقه يتلألأ؟ ومثل ذلك (ومهَّد التَّطور في سباتٍ عميق يرقد...) كيف تطور مع سبات عميق ورقاد؟ وكذلك: (لا يحيط بها بشر) و(لا يحكم بها إلا مطلع) = هذا المطَّلع الحاكم بها أأحاط بها أم حكم بها قبل أن يحيط؟ وإن كان هذا المطَّلع محيطاً بها أهو بشر أم لا؟ إن كان بشراً فقد ناقض القول بعدم الإحاطة للبشر، وإن كان غير بشرٍ فمن هو - باسم الله؟ وكيف حُكم بذلك له؟
7- أنا لم أقل: إنَّ المرونة تكون في الكلمة ذات الأوجه بل هذا هو ما في مقالكم، ولا مطلوبي أن يُستقصَى كلام العربيَّة بمقال ذي (400) كلمةٍ، بل قولي هو، وأعيده هنا من جديدٍ: ما جاء بوجهٍ واحدٍ في العربيَّة أيعدُّ ذلك من المرونة أم من التَّضييق؟ والأفضل استعمال السَّعة لا المرونة؛ لأنَّ المرونة معناها اللدانة واللين.
8- الملحق والجمع هما تحت باب واحدٍ جمع التَّصحيح، وعند ذكر الأحكام يفرَّق بينهما، والكاتب ذكر أنَّ الأوجه السِّتَّة - كما عدَّدها - كلُّها جائزة في جمع المذكر السَّالم هذا هو مفهوم كلامه، لذلك قال ختام مقاله: «هذا السُّداسيُّ اللغويُّ احفظه وعلِّمه، وأنت تفتخر بعربيتك الَّتي إعجازها في مرونتها وسهولتها. وهذا يحقِّق القاعدة العريضة في الإسلام: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} فتكلَّم أنَّى شئت» اهـ = يلحظ النَّاظر في النَّصِّ أنَّه لم يحدِّد أنَّ ذلك في الملحق دون الجمع أو في المسمَّى به، أو في الأعجمي الجائي على صورة الجمع، والنَّحويُّون فرَّقوا في ذلك، فهم أدقُّ حكماً، وأثقب نظراً، وأصحُّ ضبطاً، وأصدق قولاً، وليس أمرهم على ما يوهمه ما جاء في المقالة أنَّ ذلك في الجمع دون تخصيصه بملاحقه كما سبق ذكره.
قلتُّ: المذكور هنا آية كريمة جاءت في سياق مجوِّزات فطر الصَّائم، أما القاعدة الفقهيَّة فهي (المشقَّة تجلب التَّيسير)، فليس الكاتب في نظمٍ ليضطرَّ بتسمية الآية قاعدة، ووصفها بالعريضة ليس مسلَّم له به، بل تسمَّى قاعدة فقهية أو قاعدة كبيرة، أو القاعدة الكبرى، أمَّا (عريضة) فيقال مثلاً: شريحة عريضة، لأنَّ العريض هو الواسع الكثير، والكاتب قعَّد بهذه الآية أو القاعدة كما ذكر وساقها في الأوجه السِّتَّة في جمع المذكَّر السَّالم، واختتم ذلك بكلمة (أنَّى)، وهي محتملة لـ(كيف/ أين/ متى)، والأظهر أنَّه يريد (كيف) لكنَّه أراد الثُّلاثيَّ اللغويَّ في معاني (أنَّى) فكما جاز له بينيًّا أن يسمِّي بالسُّداسيِّ اللغويِّ فكذلك يجوز لنا أن نسمِّي ذلك بالثُّلاثيِّ اللغويِّ المعنويِّ، ولا نعدم أن نجد في كتب التُّراث من استعمل هذا التَّركيب كلَّه مجتمعاً أو بعضه أو مفرَّقاً.
9- ظهر الاضطراب عنده في المنهج فقد ذكر ثلاثة أوجهٍ تخريجيَّة، وهي لنطق واحدٍ؛ أي: وجه واحد غير أنَّه جعلها ثلاثة بالنَّظر إلى التَّخريج والتَّعليل فما حاجة النَّاطق الَّذي قال له الكاتب: «فتكلَّم أنَّى شئت» ما حاجته بحمل هذا الوجه على المفرد أم على التَّكسير أم على ... إلخ؛ فهاهنا فصَّل بالخلط بين التَّخريجات الإعرابيَّة والتَّوجيهات النَّحويَّة للغةٍ واحدةٍ في نطق كلمة وهو ما لا ينبغي ولا يصحُّ عدُّها أوجهاً، في حين أنَّه أجمل فخلط أحكام جمع المذكر السَّالم بأحكام الملحق به والمسمَّى به والمحمول عليه وهو ما لا ينبغي ولا يصحُّ، فخرج بحكم خطأ في تجويزه للنَّاطق أن يعرب جمع المذكَّر السَّالم بالأوجه السِّتَّة بقوله: «أنَّى شئت» على أنَّ حقيقة ما ذكر هي أربعة، وهذه الأربعة تكون للملحق بالجمع والمسمَّى به وما جاء على صورة الجمع كـ(قنِّسرين)، ثُّمَّ عاد في (تعقيب على تعقيب) يعلِّل لتسديسه لها = قلتُ: في الظَّنِّ المحقوق أنَّه - سلَّمه الله - صنع ذلك ابتداءً إغفالاً بالنِّسبة لعدم التَّفريق بين أحكام الجمع وبين الملحق به؛ فجمع المختلف، وغفلةً في التَّفريق بين الأوجه المتَّحدة حيث فرَّقها ستةً وهي أربعة؛ ففرَّق المتَّفق، ولمَّا انتُقد في ذلك استجفل فاستعجل فرام مخرجاً، فراوغ - فيما يظهر - تنصُّلاً من ذلك أنَّه فرَّق بينها بالنَّظر إلى العلَّة والتَّخريج كما يذكر غير أنَّ هذا المخرج أوقعه في اضطراب المنهج كما ذكرته آنفاً، فكان حاله كحال سعيد بن حسَّان حيث قال:
فكنتُّ كالسَّاعي إلى مَثعبٍ
مُوائلاً من سَبَلِ الرَّاعدِ
ختاماً: يقول ابن يعيش في باب الجموع: «وذلك إنَّما يكون فيما يجمع بالواو والنُّون عوضاً من نقصٍ لحقه»، وقال أيضاً: «وإنَّما جاز إعراب النُّون في هذا الضَّرب من الجمع لأنَّ النُّون فيه قامت مقام الحرف الذَّاهب؛ فجعلوها كـلامِ الكلمة، وإنَّما ألزموه الياء ليصير نظير غسلين». [شرح المفصَّل]
هذا غير الخلط بين الإعراب ونوع الإعراب وحرف الإعراب وعلامة الإعراب يظهر ذلك من قوله: «الإعراب وعلاماته أو ما حمل عليه وعلّته»، فما معنى (ما حمل عليه)؟ وما حاجة المتلقِّي الَّذي تريد أن تخبره بمرونة العربيَّة كما هي عبارة المقال بالحمل عليه وعلَّة الحمل، وهذا درس من دروس تعليل الإعراب، يُدرس في أصول النَّحو قسم العلَّة، فمثلاً (حدِّ الأربعينِ) تخرَّج على الإضافة وأنَّها معربة بالحركات مع التزام الياء، وخرِّجت على الضَّرورة فحسب، وخرِّجت على أنَّها معربة بالحروف وأنَّ كسرة النُّون تخلّصاً من التقاء السَّاكنين، فهل نقول حينئذٍ إنَّ في (حدِّ الأربعين) ثلاثة أوجهٍ، وحقيقتها وجه واحد ونطق واحد؟
10- أمر الانبتار لمَّا أن اختلفنا فيه فيكون الحكم به حينئذ عائداً إلى المتلقِّي لا لي ولا لكاتبه، وأمَّا أمر الحديث النَّبويِّ والآثار فهذا أمر آخر يحتاج إلى بيانٍ دقيق ونظر ناقح لا كما أورده الكاتب، فالنَّاظر فيما كتبه يظهر له أنَّ الاستدلال والاستشهاد والاحتجاج كلُّها سواء عنده، فقد ذكر الاستشهاد ثُمَّ عرَّج على الاستدلال، وأعرض عن الاحتجاج.
وأقول: إنَّ عدم التَّفريق بينها هو الأمر الَّذي من أجله وقع الخلط والارتباك والاختلاف عند المعاصرين في الحكم على النَّحويِّين السَّابقين، وخير مثال أبو حيَّان الَّذي هو معدود من المانعين بل زعيمهم، في حين أنَّه يورد في كتبه النَّحويَّة شواهد حديثيَّة لأوجه نحويَّة، فبعضهم عدَّه من المجوِّزين، وبعضٌ آخر جعله ممَّن غيَّر رأيه وترك مذهب أستاذه كما قاله أ. د. فخر الدِّين قباوة في كتابَيه عن ذلك.
وأعود مذكِّراً أنَّي قد كتبتُ في هذا الموضوع بحثاً بعرضٍ جديد للمسألة، ودفعتُه للنَّشر فامتنِع من نشره واعترض على ما فيه، فأجريت عليه قلم التَّعديل، وقد دفعته من جديد للنَّشر. يسَّر الله نشره وسهَّله.
** **
- د. فهيد بن رباح الرَّباح