لم تزل الهدية سببًا للمحبة، أو إمارة دالة عليها، أو تعبيرًا عن مكنونها، فهي دائرة في فلكها، وتزاد قيمتها بما يحف بها من أحوال وسياقات.
وإهداء الكتب من أنفع الهدايا، وأكثرها بركة، فالكتاب يتجدد عطاؤه ولا ينفد، ويبقى ولا يفسد، ومع هذا فلا يخلو إهداء الكتب من آفات، وأعظمها تفويت الاختيار، والإلزام بذوق المهدي، وثقافته، وتوجهه، ومعتقداته، فالأديب يهديك الأدب، والفقيه يهديك الفقه، والواعظ يهديك الوعظ، ليفتح الله قلبك المغلق، أو ليدلك على العلم الذي لا ينفع غيره، أو ليطري ديباجتك من جفاف العلم الصِّرْف! فكم من إهداء وُلد من رحم وصاية، ابتغاء استمالة من وراء وراء!
وكم من الكتب، في مثل هذه الحال، ما يؤول عبئًا على المكتبة، وثقلاً على صاحبها، لا يجد له مكانًا، ولا يرجو له طالبًا.
وفي إبان دراستنا الجامعية والعليا كان تكوين المكتبة، وجمع مادتها هاجسًا لا يراوحنا، فلم يكن الاكتفاء بارتياد المكتبات العامة ثقافة شائعة في محيطنا الصغير، أعني أنا وزملائي في الدفعات المتقاربة، وإنما هو الاقتناء بالشراء، أو الاستعارة من مكتبات الزملاء والتصوير، وذلك لما ندَرتِ الطبعات المعتمدة، التي عليها الإحالات، ونفدت من الأسواق، وحلت محلها طبعات جديدة رديئة، لا تغني شيئًا، فكنا نلجأ إلى التصوير بضعف ثمنه، ثم إلى التجليد بقيمته جديدًا لو توفر!
وكان الأستاذ القدير صالح بن إبراهيم العليان (1359-1428هـ) رحمه الله تعالى، يتعهد طلاب العلم بإهداء الكتب، كانت عادة عُرف بها، وخلقًا اقترن باسمه، وكان إهداؤه نافعًا مثريًا، يقع موقعه الجليل، فقد كان يتلمس حاجة الطالب، ويعنى باختيار ما يصلح له، فيمضي في المكتبات الوقت الطويل في الاختيار، ثم إذا أعد له ما أعد، دعاه إلى بيته مستضيفًا، وجلس إليه يحتسيان القهوة، ويسأله فيها عن أحواله، وحاله مع القراءة خاصة، دون أن يتوسع في فضول الكلام، ثم يهديه ما أعد له، مما ينوء حامله بحمله، إنها كتب قيمة، عددًا ومادة ونفاسة، كتب منتقاة بعناية، من أعمدة كتب التخصص، وبعضها لا يتوفر في الأسواق.
لقد كنا نتعجب من هذا الإهداء، كمَّا ونوعًا، وقيمة مادية، وتكرارًا وشمولاً، فلا يستثني أحدًا ممن يتوسم فيه الحرص على العلم، ونتساءل أللشيخ صالح وقف ينفق منه؟! حتى أدركنا أنه ينفق من خزائن كرمه، التي يفتحها خلقه ونبله وتدينه.
ولم يكن كرمه مقتصرًا على إهداء الكتب، فربما تلمس حاجات بعض الناس، وخاصة من الشباب في مقتبل حياتهم، فعرض عليهم عونه ورفده.
والكرم بصوره، كرم يدٍ أو خلق، أو علم، يشفعه بِنَفَسٍ تربوي، وواجب اجتماعي، يتفقد من وحيه طلابه، ويلتمس حاجاتهم المعنوية والنفسية، وربما اتصل بأولياء أمورهم ليعالج ما يحتاج معالجة.
دَرَسَ أحد الأعمام في معهد عنيزة العلمي، متنقلاً من الطائف، أرسله الجد -رحمه الله، ليتولى الوالد شأنه الدراسي، فحدث أن هم بأمر سوء وفعله، كان يخرج من البيت صباحًا متوجهًا إلى المعهد، ثم ينحرف عن وجهته، ويقصد أحد أصدقائه من بني عمه، في إحدى المزارع، يقضون الضحى لعبًا وهربًا من الدراسة، فإذا حانت ساعة نهاية الدوام عاد ليتناول الغداء مع الوالد، فكان الوالد يسأله عن يومه المعهدي كيف قضاه، فكان ينسج له الأحداث، ويتخيل المواقف، ويستعرض الدروس والمشايخ، هذا كلفنا بكذا، وذاك سألنا عن كذا، حتى مضى على ذلك أيام، فتواصل الأستاذ صالح مع الوالد، وأخبره عن حال العم مع الغياب، فلما كان الغداء التالي، وسأله كعادته، وأجاب العم بما يجيبه عادة، واجهه بانكشاف أمره، وبادره بالعقاب المناسب من ساعته!
كان الأستاذ صالح متخصصاً في العربية، وكان نحوياً قديرًا، رشح للتدريس في فرع جامعة الإمام محمد بن سعود، لكن حال دون ذلك بعض الحوائل، وكان يقرأ عليه بعض طلبة العلم في بيته، في دروس خاصة، وقد ظل متواصلاً مع العلم وطلبته حتى بعد تقاعده، بل وبعد إصابته بمرضه الأخير، ومما أذكره له فأشكره، أنه أخبرني عن موعد بث مناقشتي للماجستير في برنامج (أطروحة على الهواء)، الذي كان يبث من إذاعة القرآن الكريم، وكنت غافلاً عن هذا، غير متوقع له ولا مترقب، ظل متواصلاً مع المجتمع وطلبة العلم، لا في شأن الكتب وإهدائها فحسب، بل في التعليم، والمناقشة، والحوارات النافعة، وفوق ذلك وقبله وبعده، في ذلك الخلق الرفيع، والتواضع غير المصطنع، والمقابلة بما يبعث الاطمئنان، ويشعر بالمحبة والصدق والإخلاص.
رحمه الله وغفر له.
** **
أ.د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - أستاذ النحو والصرف - جامعة القصيم