انغمس الفكر العربي المعاصر بعد الحرب العالمية الثانية في أيديولوجيات أعاقت تطوره الصناعي والتقني، مع وفرة الإمكانيات في الدول العربية إلا أن الفكر العربي دخل في إشكال تأسيس الأيديولوجيا وصار مرتهنًا بها، ولعل الفراغ الذي أحدثه الاستعمار الغربي للدول العربية جعل المفكر العربي يبحث عن خلاص ونجاة حتى ولو بتأسيس أيديولوجيا يرتهن بها، وهذا ما ألْفيناه في مناحٍ عدّة في الفكر العربي: فنجده في البعث العروبي، كما نجده في الحركات الدينية الإسلامية. وهذه الحركات صار همها فكر الأمة أكثر من فكر الدولة، مما جعلها تخوض حروبًا عربية في شتى اتجاهاتها: ففي الفكر العروبي رأينا حروب العراق مع إيران ثم مع الكويت، وحروب لبنان الأهلية، وفي الفكر الإسلامي نشأت حركات إسلامية منذ القاعدة حتى داعش، ثم اختتمت بالثورات العربية التي تزعمتها الحركات الإسلامية.
والمطّلع على هذه الحركات بكل أشكالها يرى فيها غياب مفهوم الدولة، والاهتمام بمفهوم الأمة، كما نجده في محاولة تأسيس الجمهورية العربية التي تجاوزت عدة دول كمصر وسوريا واليمن، وظهر مفهوم الأمة من ناحية دينية في قضية فلسطين التي صار الولاء والبراء مبنيًا عليها في علاقة الدول العربية ببعضها، بين تخوين وصهينة بحسب ما ينتزع من مفهوم الدولة مقابل مفهوم الأمة.
كما أننا نلحظ صراعًا كبيرًا على السلطة عبر انقلابات، وسجون، واغتيالات كلها صادرة عن هذه الحركات، فعدد من الدول العربية التي حكمها البعث العربي وصلوا إلى الحكم عن طريق الانقلاب كليبيا ومصر والعراق، واغتيال الحركات الإسلامية للسادات بناء على إشكال التطبيع مع إسرائيل في قضية فلسطين.
ولعل المُرتجى من هذه الحركات هو إعادة التفكير في تطوير حركاتهم السياسية من خلال إعادة التفكير في مفهوم الدولة أكثر من مفهوم الأمة، بحيث يصبح الهم هو سيادة الدولة وعدم التدخل في سياسات الدول الأخرى، وأيضًا توسيع مشاريعهم السياسية بعيدًا عن فكرة الحروب والتركيز على إعمار الدولة وتطويرها اقتصاديًا وتنمويًا، بحيث يصبح هم الحركة السياسية هو الشعب وليس الحزب، والدولة وليس الأمة.
وللدعوة إلى تجاوز الأيديولوجيا العربية المعاصرة ارتباط مهم بفلسفة ما بعد الحداثة التي حاولت تجاوز الأيديولوجيات التي أغرقت العالم بأسره في حروب انتهت بحربين عالمية قتلت ملايين من البشر، حتى صار سقوط جدار برلين هو سقوط صراع الأيديولوجيا الغربية، ثم رأينا بعدها توقفًا للحروب بشكل تام بين هذه الدول الغربية، واتجه الغرب إلى الدولة تطويرًا وتحسينًا.
** **
- صالح سالم