لا تزال قضية بنية النص الشعري وعوامل تكاملها، هي مما يشغل العقل الفاعل للمهتمين بالدرس النقدي. فإن أقررنا بأن وحدة القصيدة هي مطلب، فمن يمتلك حق تقويض ذلك البناء؟ إن مشروعية هذا السؤال تفرضها جدليات عدة قد تولدت عن قيام البعض بإحداث تغيير قد نال بُنىً نصية بعينها لشعراء كانوا قد رحلوا عن عالمنا المعاش، فنجح البعض في ذلك، في حين كانت النتيجة مع البعض الآخر ليس من المرضى عنه.
كتب الشاعر العراقي بدر شاكر السياب في أوائل ستينات القرن الميلادي المنصرم رائعته الشعرية التي عنونها بأنشودة المطر. كان الرجل حينها قد غادر العراق بعد خصومته مع نظام الرئيس العراقي الراحل عبدالكريم قاسم الذي قاد مع رفيقه عبدالسلام عارف انقلاباً ضد حكومة الملك فيصل الثاني بالعراق، تمخض عنه مقتل الملك ووصي عرشه خاله عبدالإله بطريقة وحشية تم على أثرها سحلهما في شوارع بغداد بيد العامة.
كان السياب يرى أن نظام قاسم المتقارب مع الشيوعيين في العراق قد أحال وضع العراق للأسوأ، وبأن الحال لن ينصلح إلا برحيل هذا النظام. فحكم العسكر في العراق من وجهة نظره قد مثل وبالًا على شعب العراق. كان السياب يرى أيضًا بأن حال العراق قد أضحى أشبه ما يكون بامرأة قد غادرها الفرح وسكنها الحزن ففقدت بريقها واختفت معالم أنوثتها وغادرتها خصوبتها.
انطلق السياب في فكرته المشكلة للنص، من أسطورة أدونيس إله الخصب والنماء والربيع في الحضارة والثقافة الكنعانية، الذي خرج ذات يوم للصيد فهاجمه خنزير بري، بحيث أدى هذا الهجوم لمقتله وتقطع أوصاله التي ما لبثت أن غاصت في أعماق التراب. فنتج عن وفاة أدونيس أن الأرض قد طالها البلاء وتغير حالها للأسوأ. فتوقفت الأرض عن الإنبات ومنعت السماء قطرها ولم تعد الأبقار تدر الحليب، وهذا الضرر لم يكن من سبيل لإيقافه إلا بعودة إدونيس.
حينها قرّرت حبيبته عشتار الخروج للبحث عنه فمشت مسافات طويلة حتى أدمت قدماها. لاحقًا تمكنت عشتار من إيجاد مكان أدونيس وعملت على تجميع أوصاله وإعادته، فكان أن دبت الحياة في الأرض وعادت الحياة والسعادة لتأخذ مجراها من جديد.
قام شاعرنا بدر شاكر السياب بتوظيف هذه الأسطورة ليقول بأن حال العراق قد أصبح كحال الأرض حين غادرها أدونيس، وبأن عودة العراق لماضيها المجيد لن يكون إلا بعودة أدونيسها، وإن العراق أحوج ما يكون لعشتار أخرى تعيده لسابق ما كان عليه. فنجده يتحدث عن واقع العراق حينذاك تحت حكم عبدالكريم قاسم قائلاً:
أكاد أسمع العراق يذخر الرعودْ
ويخزن البروق في السّهول والجبالْ،
حتى إذا ما فضَّ عنها ختمها لرّجالْ
لم تترك الرياح من ثمودْ
في الوادِ من أثرْ
أكاد أسمع النخيل يشربُ المطرْ
وأسمع القرى تئنّ، والمهاجرينْ
يصارعون بالمجاذيف وبالقلوعْ،
عواصف الخليج، والرعود، منشدينْ:
مطرْ...
مطرْ...
مطرْ...
وفي العراق جوعْ
وينثر الغلالَ فيه موسم الحصادْ
لتشبع الغربان والجرادْ
كانت أنشودة المطر قصيدة سياسية بامتياز، وعندما كان السياب يردد في ثنايا النص: «مطر.. مطر..مطر»، فإنما كان يردد بأعلى صوته ويدعو قائلًا: «فليعد الخصب والنماء للعراق وليعد العراق أرض مجدٍ وأمنٍ وخير كما كان ذات يوم».
الحدث الرئيس الذي رغبت في تناوله في مقالي هذا، هو إنه عندما قرر المطرب السعودي محمد عبده غناء هذه القصيدة، فقد كان لزامًا عليه أن يعمل على حذف أبيات منها كي يتمكن من غناءها، ولكي تكون لدينا قصيدة مغناه تحمل لنا تجربة شعرية تعالج قضية بعينها كما هو حال العديد من القصائد المغناة التي تتناول في الغالب أحوال العشق والغرام.
أذكر إني قد قرأت ذات هذا إن لم تخني ذاكرتي المشهورة بالضعف، بأن الفنان محمد عبده قد لجأ لشاعرنا الكبير الراحل غازي القصيبي ليحقق له هذا الصنيع، ويقيني بأن القصيبي أو من كان قد قام مقامه بالعمل على تحوير هذا النص الأدبي ليكون نصًا عاطفيًا يُغنّى، عوضًا عن كونه نصًا سياسيًا في المقام الأول، قد نجح في ذلك إلى حد ما بحيث قد أعتقد الكثير بأنه يستمع لنص شعري يتحدث فيه صاحبه عن محبوبته، في حين كان البعض الآخر ممن لم يقرأ النص الأصلي لكنه يملك ذائقةً أدبيةً، يشعر بالتيه وبعدم القدرة على تحديد مآلات النص الشعري المغنى.
وهذا الأمر يأخذنا لسؤال؛ هل ينبغي أن يترك لنا نحن حق تغيير أو تحوير بنية النص الأصلي لتحقيق هدف ما نبتغيه، أم أن هذا الأمر مما ينبغي أن يناط بالشاعر إذا كان على قيد الحياة، كما جرى مع الشاعر نزار قباني الذي غير أبيات من قصيدته قارئة الفنجان بناء على طلب الفنان الراحل عبدالحليم حافظ كي يتمكن الأخير من غناءها، أم هو مما يفترض العدول عنه في حال رحيل قائل النص؟
** **
- د. حسن مشهور