سهام القحطاني
«الرجل يُعرف على أنه إنسان، والمرأة تُعرف على أنها أنثى، وحينما تتصرَّف المرأة كإنسان يُقال إنها تقلد الرجل»-سيمون دي بوفوار.
يذهب المفكر فريدرك إنجلز إلى أن مفهوم الألوهية في الأساطير في البدء انبنى على الآلهة المرأة، نتيجة طبيعة المجتمع في تلك الحقبة وهو ما سُمي بالمجتمع الأمومي أو ما يُطلق عليه مصطلح «المتريركي»؛إذ كانت المرأة هي المسيطرة على حركة الحياة الإنتاجية، وعندما بدأ تاريخ الملكية الفردية وأصبح الرجل هو المهيمن على الأرض وامتلك العبيد من الفلاحين و تحولت المرأة إلى جزء من الملكية الخاصة بالرجل، وهو العصر الذي وصفته سيمون دي بوفوار «بالانكسار التاريخي الكبير للجنس النسائي»؛ ووفق هذا التحول والقوة التي امتلكها الرجل أصبحت الآلهة رجالاً بدلاً من النساء، وسيطرة الهيمنة «البطريركية»، هذه السيطرة التي جعلت المرأة داخل الأساطير وجهاً آخر للشر في دلالاته المختلفة لسحب أي فرصة لعودتها إلى مصاف الآلهة وإعلاء قيمة الرجل، وكأن الرجل ينتقم من ألوهيتها التاريخية المزعومة.
لقد ربطت الأساطير الخرافية في العصر البطريركي المرأة بالغواية والخيانة وصراع الرجل مع الرجل، وهو ربط لا يمكن تجاهل جذره التاريخي وحكاية الخطيئة الأولى التي نُسبت للمرأة.
وأسطورة بجماليون من الأساطير المشهورة التي رسخت هذه الخلفية نحو المرأة.
لا شك أن الكثيرين يعرفون أسطورة بجماليون النحات الذي صنع تمثالاً لأمرة جميلة ثم فُتن بها لدرجة أنه طلب من آلهة الحب» فينوس» أن تُحيّ التمثال ثم تزوجها وأنجبت له بافوس التي سميت مدينة بافوس في قبرص باسمها هذه المدينة التي تشتهر بصخرة أفروديت،التي ترمز إلى آلهة الحب والجمال في الأساطير اليونانية.
لكن نادراً من يعرف اسم تمثال المرأة الجميلة الذي نحته بجماليون ثم حوله إلى امرأة حيَّة، وكان اسم هذا التمثال «جالاتيا»، وكأن هذا التغييب لاسم جالاتيا في الظهور العلني القوي لاسم بجماليون إشارة إلى قدسية اسم الرجل وشيوعه و»عورة اسم المرأة» وهي عادة اجتماعية ما زالت قائمة حتى اليوم يختفي اسم المرأة ليبرز اسم الرجل في صيغة الأب أو الزوج أو الأخ أو الابن، فالرجل يظل هو الواجهة والعلنية مقابل الاختفاء والمجهولية للمرأة.
وأسطورة بجماليون عندما تُفكك دلالاتها ستجد أنها ليست مجرد حكاية، بل هي أكثر من ذلك، فبجماليون هذا النحات الذي كان يكره النساء ويعتبر أنهن مصدر شر، لكن هذا الموقف من النساء كان يتعارض مع حاجته للمرأة ولو في كينونتها الرمزية، لذا قرَّر أن يصنع نموذج المرأة الذي يتمناه نموذجاً صامتاً متجلياً بكمال الجمال الأنثوي حتى يُحقق رغبته في التعايش مع الكينونة الرمزية للأنثى مطلقة الكمال في كل شيء، لكنه اكتشف فيما بعد أن الجمال الصامت مهما بلغ منتهى الكمال لا يمكن أن يحقق رغبة حقيقية قابلة للتعايش، لقد آمن أن قيمة المرأة لا يمكن أن تكتمل مهما بلغت من جمال إلا بوجود الروح التي تمنحها الواقعية ودفء العلاقة حتى تتحقق السعادة الخالصة للرجل، ولذا طلب من آلهة الحب أن تمنح تمثال جالاتيا الروح لتُصبح امرأة حقيقية.
ومع أن بجماليون هو الذي صنع «جالاتيا التمثال» لكنه لم يستطع التخلص من وهمه بأن المرأة مصدر كل شر، ولذلك ينهي هذه الأسطورة باكتشافه خيانة جالاتيا له مع رجل آخر وانتقاما منها يطلب من الآلهة إعادتها إلى تمثال ثم يحطمه، لتنتهي هذه الأسطورة، وكأنه يُشير إلى أن المرآة في كينونتها الحية هي وجه آخر للآثام، فعندما مُنحت لها الروح قامت بفعل الخيانة.
وثيمة ارتباط الخيانة بالمرأة تحولت مع التقادم و التأكيد إلى نمط، وهي ثيمة لاشك أنها مبنية على الاعتقاد الأولي بدور حواء في الخطيئة الأولى، إضافة إلى وهو الأهم و الأخطر أن «ارتباط المرأة بالخطيئة» كان هو الذي يجلب لخلفياتها الوهج الدرامي لكل أسطورة تتعلق بالمرأة، وبذلك فهي تعمل «كأشكال ضامنة لأنماط ونماذج محددة من السلوك تكون معيارية بالنسبة إلى الفرد كما تستخدم كمجموعة من الأسباب لتفعيل سلطة مقدسة دعماً لممارسات معينة بشكل واع وواضح».-باربرا وايتمر،ت/ممدوح عمران-.
وهناك رواية أخرى لهذه الأسطورة ورغم اختلافها لكنها تتفق مع الرواية السابقة من حيث «خيانة جالاتيا لبجماليون».
ومن خلال هذه الأسطورة يمكن تحليل علاقة الرجل بالمرأة،صراع الرجل مع المرأة، فالرجل يسعى إلى تقيد المرأة بكينونتها الرمزية ككمال مطلق يستمتع بها، دون مقاومة وهو أمر كما تذهب إليه الأسطورة لن يتحقق إلا في حالة تجريد المرأة من روحها، تلك الروح التي تمنحها قوة التحرر من خيال الرجل السادي واستعباده لكينونتها.
لقد أحب بجماليون جالاتيا التمثال الجامد، دون صوت أو موقف أو فكر؛ لأنه كان يعلم أن الصوت والموقف والفكر يحررها من قفص استعباده، وهذا المبدأ الاستعبادي ما زال قائماً حتى اليوم بصيغ وذرائع تطبيقية مختلفة من خلال الأقوال والأمثال التي تُهيمن على العقل الجمعي لكن الدلالة تظل ثابتة.
تُرسخ أسطورة بجماليون فكرة «المرأة الخطيئة» و الرجل الضحية، «فخيانة جالاتيا لبجماليون» هي الذي دفعته إلى إعادتها إلى تمثال، كما تُرسخ أن الرجل يملك قدرة وحق التحكم في حياة المرأة فرغبته هي التي منحتها الحياة كما أن رغبته هي أيضاً التي جردتها من الحياة، هذا التصرف المتعالي من بجماليون الذي يؤكد أحقيته على امتلاك حياة جالاتيا و موتها.
وهذه فكرة راسخة في عقل الرجل حتى اليوم فهو يعتقد أنه يملك حق قرار حياة أو موت المرأة، الموت في دلالته الرمزية من خلال التدخل في اختياراتها وحركتها وتقرير مصيرها بحكم صفته المكتسبة كأب أو زوج أو أخ.
فالرجل ما زال يؤمن من عهد بجماليون أن مصير حياة المرأة أو دفنها بالموت وهي حيَّة قرار بيده، والذريعة هي دائماً في دلالتها ثابتة وإن اختلفت مفرداتها ما بين الخيانة والعورة والفتنة، فثمة ذريعة يملكها الرجل حتى يتحكم في حياة المرأة.
إن اتهام بجماليون بالخيانة كان ذريعة لإثبات وهمية «الكمال الإنساني للمرأة» لأن تأكيد استمرار هذا الكمال مع وجود الروح هو إعادة المرأة إلى مصاف الألوهية ومنافسة الرجل الإله أو بمعنى آخر مساواة المرأة بالرجل في كماله.
والدلالة الأخيرة التي تُرسخه هذه الأسطورة «عنف الرجل نحو المرأة» فلم يكتف بجماليون بإعادة جالاتيا إلى صورتها التمثالية وتجريدها من الحياة وإلغاء وجودها الحيوي وهو أمر كان كافياً للانتقام منها، بل دعم هذا الإلغاء بالعنف عندما حطمها، ولعله عمد إلى هذا العنف ليؤكد قدرته على امتلاك حياتها وموتها، وليقطع الطريق على رغبته في التفكير مرة أخرى لإعادة الحياة إلى تمثال بجماليون، وقد عان كما توضح الأسطورة بجماليون من الألم بعد تحطيمه لتمثال جالاتيا ليثبت للجميع أن المرأة ليست مصدر الشر فقط، بل ومصدر الألم.
وهذه النظرة للمرأة لا تتعلق بتوقيت وصلاحية زمنية معينة، بل هي مستمرة ثابتة الدلالة رغم السياق الحضاري المتغاير ولذا لا نندهش عندما نقرأ أقول لبرنارد شو صادمة نحو المرأة مثل أنها « جمع للهموم وطرح للأموال و مضاعفة للأعداء وتقسيم للرجال، وأنها ظل الرجل وعليها أن تتبعه لا أن تقوده».
و»أنها ولدت لكي تُصبح عبداً لرجل؛ فالحرية والاستقلال ليس لها» كما يقول نابليون.
وغيرها من أقوال أبرز رجالات التاريخ التي تكشف أن النظرة الدونية للمرأة من قِبل الرجل قائمة حتى يومنا.
الأساطير هي اللا وعي العقل الجمعي.