د.عبدالله بن موسى الطاير
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ودول العالم تخوض حروباً لا منتهية، بدأت بالحرب الباردة التي ادعت أمريكا أنها انتصرت فيها كما يقول Simon Sinek، ويدفع بأن الحرب الباردة لا تزال مستمرة مع تبدل في مدخلاتها، وصولا إلى الحروب بالوكالة التي تعصف بالشرق الأوسط تحديداً.
تموضع الخلاف بين الغرب والاتحاد السوفيتي إبان الحرب الباردة حول ثلاثة محاور هي السلاح النووي؛ الذي مثّل قوة ردع متبادلة بحيث لم تجرؤ دولة على مهاجمة أخرى، والأيديولوجيا الاشتراكية: التي يصدرها الاتحاد السوفيتي، والرأسمالية؛ التي يصدرها الغرب، وأخيراً الاقتصاد الذي تمكنت أمريكا من ربط دورته بالدولار، والقبض على المؤسسات المالية والاقتصادية في العالم. الزعم بالانتصار في الحرب الباردة جعل أمريكا مزهوة بثقافتها وأيديولوجيتها واقتصادها وأكرهت العالم على ما رأته صوابا وموافقة لحياة البشرية، وعملت على فرضه مرة بقوة نفوذها الإعلامي والثقافي، وأخرى بقوتها العسكرية.
ولأن الحرب الباردة كما يقول سينك مستمرة فقد تبدلت محاورها، فالسلاح النووي أصبح بيد باكستان وكوريا الشمالية وربما قريبا بيد إيران. واستبدلت الاشتراكية بالإسلام المتطرف، ودخلت الصين لاعبا مؤثرا في الاقتصاد العالمية، وبذلك فإن السباق النووي، والإسلام المتطرف، والنفوذ الاقتصادي الصيني أبقت أوار الحرب الباردة متقدا؛ ومن المبكر إعلان الانتصار في الحروب والنزاعات القائمة؛ بيد أن ساحة المعركة ستشهد انسحاب أطرفٍ، إما لعجزها المادي عن مواصلة الحرب، أو غياب الرغبة في المواصلة، وحينها يكون الأطول نفسا والأغنى من حيث موارد التمويل هو الذي ستؤول إليه السيطرة ليضع قواعد اللعبة في العلاقات الدولية.
الدول تلاعب بعضها بعضا، والإرهاب ومكافحته جزء من اللعبة كما هي الإبراهيمية، والتسامح. كما أن تمكين أنظمة سياسية قائمة على الحكم مدى الحياة للمحافظة على الأمن والاستقرار كما في الصين وروسيا وربما تركيا قريباً، في مقابل الديمقراطية الغربية هي أدوات في لعبة عالمية كبيرة ومستمرة.
ربما لو سألت رجل الشارع العادي عن أكثر مخاوفه لأجاب بأنها الفوضى وعدم اليقين. والفوضى تضرب بأطنابها على رقعة العام الإسلامي تحديداً من أفغانستان إلى غرب إفريقيا، وهي منطقة المناورة حيث تجد الأيديولوجية البديلة (الإسلام المتطرف) قواعد للتشكل بين الفينة والأخرى، وتنهك الدول في هذا الحزام المستهدف لقلة مواردها وبروز أولويات تحول بينها وبين مواصلة حروب لا منتهية، وبذلك فعليها في وقت من الأوقات التسليم والانسحاب من الميدان وهو ما قد يعيد إلى الواجهة مصير دول أوروبا الشرقية عندما انسحب اللاعب الرئيس وهو الاتحاد السوفيتي فألحقت تبعاً لذلك بالمعسكر الغربي.
نظرة سريعة على الفوضى التي تضرب أفغانستان، والعراق وسوريا وليبيا ومالي وعدد من الدول الإفريقية ذات الغالبية الإسلامية أو الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي لنعرف أن الفوضى وعدم اليقين هما سيدا الموقف، وأن تلك الدول والمجتمعات مفتوحة على كافة الخيارات وأسوئها. البؤس الذي يعم الشرق الأوسط بسبب الفوضى وعدم اليقين لم تسلم منه الدول الفاعلة كأمريكا ودول الاتحاد الأوروبي، فقد مرت أمريكا بفوضى فكرية كادت أن تعصف بوحدتها أثناء رئاسة دونالد ترامب حيث نشط أقصى اليمين، وسيطر الإنجيليون على الشوارع مدججين بالأسلحة، ووصل التوتر إلى ذروته بغزوة 6 يناير 2021 حين تمت مهاجمة الكونجرس لمنعه من اعتماد نتيجة الانتخابات الرئاسية، وما زالت أمريكا تخضع لحكم الحزب الواحد في كثير من الملفات التي يرفض الحزبان الجمهوري والديمقراطي التعاون فيها. الشعبوية والعنصرية وجدت لها في الدول الغربية الديمقراطية منصات على شبكات التواصل الاجتماعي مما يجعل الدول منخرطة على حد السواء في لعبة ليس أحد بمعزل عن أخطارها.
الاستراتيجية التي وضعتها أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية (الفوضى وعدم اليقين) تواجه اليوم تحديات داخلية وخارجية، وفي الوقت الذي صممت استراتيجيتها على إدارة الفوضى وعدم اليقين لصالحها، أصبحت اليوم طرفا في حرب لا نهاية لها، ولن يكون فيها منتصر مطلق، وإنما ستؤول اللعبة إلى حرب كونية ثالثة أو إلى إعادة بناء منظومة العلاقات الدولية على أسس عادلة وإحياء معاهدة أو صلح وستفاليا.
الأمير محمد بن سلمان أرسل رسالة واضحة في لقائه مع عبدالله المديفر عندما شدد على أن النجاة تكمن في عدم التدخل في شؤون الآخرين الداخلية. وهذا هو مفهوم السيادة التي تقوم عليها العلاقات بين الدول، وبدون احترام السيادة ستعم الفوضى.
دول مثل روسيا وأمريكا وإيران وتركيا لا تكترث بسيادة الدول، ولذلك تتدخل في شؤون الغير وتنجو بفعلتها، وهو ما يعني أن عالم اليوم مضطرب قصدا، وأن التفاعل الجاري سيفرز عاجلاً أو آجلاً نظاماً دولياً مختلفاً، البقاء والسيطرة فيه للأطول نفسا، والقادر على تمويل فريقه حتى النهاية.