د. تنيضب الفايدي
قبل عدة عقود حدثت معارك ومناقشات ومناوشات بين مجموعة من الأدباء والمؤرّخين واللغويين حول (ج) جدة وأشهر تلك المعارك الأدبية ما وقع بين المؤرّخ عبد القدوس الأنصاري وعلامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر، حيث أصدر المؤرّخ الأنصاري كتاباً أسماه (التحقيقات المعدة بحتمية ضم جيم جدة) بينما لا ينفي العلامة الجاسر ضم (ج) جدة لكنه يتحفظ حول موضوع الحتمية التي تمسك بها الأنصاري وملخص ما ورد في ضم (ج) جدة: ورد اسم جدة في كتاب لسان العرب وفي كتاب معجم البلدان اسم جدة الصحيح هو بضم الجيم وتشديد الدال وبعدها تاء مربوطة.. وجدة «ساحل البحر لمكة المكرمة» والجُدة هي الطريق في الماء والجبل وورد في كتاب الله عزَّ وجلَّ (جُدد بيض وحمر) أي طرق تخالف لون الجبل وقال الزجاج كل طريق جُدة وجادة وقال البكري في معجمه جُدة بضم أوله ساحل مكة سميت بذلك؛ لأنها حاضرة البحر والجُدة من البحر والنهر ما يلي البر وأصل الجُدة الطريق الممتد، ورغم أن كل المعاجم واللغويين وحتى دائرة المعارف البريطانية التي سجلت اسم هذه المدينة العريقة جِده بكسر الجيم عادت وكتبتها (جُدة) GUDDA بضم الجيم. وأن محمد البتنوني ذكر أن أهل جدة يسمونها الآن (سنة 1327هـ) جدة بكسر الجيم وأضاف أن المصريين يسمونها جَدة بفتح الجيم وعلق على القولين بأنه يرى صحتها فالجدة بكسر الجيم تعني اليمن والسعادة وجدة بلد اليمن والسعادة وجدة بفتح الجيم الطريق الواسعة وليس طريق أوسع من هذا، كما ورد ذكر تاريخ جدة في كثير من كتب المؤرِّخين العرب الأولين، فقالوا إن «بني قضاعة» كانوا أول من سكنها عام (115 ق.م)، عندما انتقلوا إليها عقب انهيار سد مأرب في اليمن، واتخذ من شاطئ جدة ميناء لمكة المكرمة في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه، حيث أمر بجعل جدة هي الميناء بدلاً من الشعيبة. وتذكر بعض المصادر أن جدة كانت ميناء قبل الشعيبة ثم تحول الميناء لسبب أو لظروف إلى الشعيبة ثم عاد إلى جدة في عهد خليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه ومن ذلك العهد وهي مدينة عامرة وعرفت بعض الأحياء في مدينة جدة قديماً مثل حارة الشام في الشمال وحارة البحر في الغرب وحارة اليمنية في الجنوب وحارة المظلوم في الشرق، وهناك حارات أحدث من الحارات السابقة ولكنها أصبحت حالياً من الحارات القديمة مثل: حارة الكندرة وحارة البغدادية وحارة غليل وحارة السبيل وحارة الشرفية، وبنيت بيوتها بالحجر الجيري امرجاني الذي يستخرج من البحر الأحمر وزخرفت بعض واجهات منازلها (بالرواشين) وقد سكنتها منذ القدم أقوام كثيرة من الأعراق والأجناس، وأصبحت حالياً من أكبر الموانئ على البحر الأحمر.
أما الشاطئ المأنوس فهو شاطئ جدة،كما وصف منذ القدم ولعلّ كلمة مأنوس ارتبطت حديثاً بالطائف وذلك كما في المثل الشعبي (الطائف المأنوس يحتاج كيس فلوس) وإن كانت الطائف (مأنوساً) فعلاً، لكن كلمة المأنوس ارتبطت بساحل (جدة) قديماً، وحيث ألفت العديد من الكتب التي تروي تاريخ جدة حديثاً، كما أن هناك بعض المؤلفات التي صنفت قديماً عن جدة ومنها مؤلف خط في النصف الثاني من القرن العاشر الهجري وقد وسم بعنوان «تنسُّمُ الزهر المأنوس عن ثغر جدة المحروس» للإمام الحجة نجم الدين محمد بن يعقوب المالكي، إلا أنه -وللأسف- لم يتم العثور على ذلك المخطوط -حسب علم الكاتب- حتى تاريخه. لذا فإن (المأنوس) و(الثغر) كلمتان -وإن كانتا عامتين- إلا أنهما تخصان جدة وحدها كما يقررها عنوان المخطوط السابق.
هذا الشاطئ (المأنوس) المتوهج بالرؤى والأحلام والأمنيات، حيث تجد الأنس والمتعة بجلوسك أو تجوالك في ذلك الشاطئ، كما تجد ما يثير النفس والمشاعر والأحاسيس، إنه شاطئ يعج بالحياة فهو امتداد للبحر الرائع الجمال.. البحر الأحمر.. ذي الشطآن المرجانية، ذات الألوان الزاهية التي يغلب عليها اللون الأحمر، كما أن هذا الشاطئ (الكورنيش) أضفى على جدة الروعة في كل وقت من أوقات ليلها ونهارها، ففي الصباح عندما تشرق شمسك يا (جدة)، تملأ أرجاءك دفئاً، وضحى عندما تسري الحياة تغمرك بالنور، وفي الأصيل عندما تغسل أمواج شاطئك الرمل الناعم وتتسابق تلك الأمواج مرحبة بزوارك صباح مساء، عند ذلك يشعر محبك بالابتهاج، لأنه مع موعد مع الجمال، واخضرار حدائقك المورقة، وتضوع أزهارها وامتزاجها بنسمات صباحك ومسائك الندية يثير ذلك الشجن، ويغذّي المشاعر، ويفتح القلوب، إضافة إلى ما يبعثه الشاطئ (المأنوس) في النفس من ذكريات فإن جدة تعطي «الأنموذج الأمثل» حالياً - من وجهة نظر الكاتب - للحركة التجارية والصناعية والعلمية التي وصلت إليها المملكة العربية السعودية، حيث إنها تمثّل معطيات وإنجازات النهضة الحضارية لبلادنا، وما بلغت (جدة) هذه المنزلة إلا بتضافر جهود الدولة والمؤسسات ورجال الأعمال، هذه الجهود المتناغمة سواء منها ما يتعلق بالمباني والأسواق والشوارع أو ما يتعلق بالأشكال الجمالية والحدائق والنوافير وفي مقدمتها « نافورة جدة» جعلت (جدة) لوحة فنية تعطي لزائرها مزيداً من البهجة والرونق والجمال، فإذا ما وصلها يؤخّر مغادرتها يوماً بعد آخر، وإذا ما غادرها يخطط لزيارتها مرة أخرى، ذلك لأنه أصبح متيماً مغرماً بها، وما أحلى الرجوع إليها، إنها الثغر ... أليس الثغر مجمع الحسن والجمال؟!