خالد الغيلاني
تعرف المعاجم الأوروبية العدمية؛ بأنها الاعتقاد بأن جميع القيم لا أساس لها من الصحة، وأنه لا يمكن المعرفة، أو الوصول إلى أي شيء، وغالبًا ما ترتبط بالتشاؤم الشديد، والشك الراديكالي الذي يدين الوجود؛ فالعدمي الحقيقي تدميري بطبعه، وليس لديه ولاءات لأحد، وكثيرًا ما ترتبط العدمية بفريدريك نيتشه الذي جادل بأنها ستجتاح البشرية في القرن العشرين، ولقد مر أكثر من قرن على تنبؤ نيتشه بالعدمية، وشهدنا جميعًا آثارها على الحضارة وتركها أوجاعًا مبرحة، وانتكاسات رهيبة، وخلقها مزاجًا حادًا من الكآبة، وقدرًا كبيرًا من القلق، والرعب؛ ففي روسيا مثلاً أصبحت العدمية مرتبطة بحركة ثورية غير محكمة التنظيم استنكر من خلالها العدميون السلطة، والأفكار الدينية حتى كان أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر، فكان العدمي معها هو أي شخص مرتبط بجماعات سياسية تدافع عن الإرهاب، والاغتيال هذا في العالم الغربي أما في عالمنا الإسلامي فقد وجدنا جذور فكرة العدمية بنحو ما عند أبي العلاء المعري ( 973- 1057) الذي يقول:
وأرحتُ أولادي فهم في نعمة العَدَمِ
التي فضلت نعيمَ العاجل
ولو أنهم ظهروا لعانوا شدةً
ترميهمُ في متلفات هواجِلِ
وهناك فلاسفة آخرون لم ينجبوا، وكانوا بلا أطفال وهم أفلاطون (427- 347 ق .م) وتوماس هوبز ( 1588- 1679) وباروخ سبينوزا ( 1632- 1677) وجون لوك (1632- 1704) وديفيد هيوم (1711- 1776) وكانط ( 1724 -1804) وسورين كريكغارد ( 1813- 1855) وشوبنهاور ( 1788 - 1860) وفريدرك نيتشه (1844- 1900) وجان بول سارتر ( 1905- 1980) وميشيل فوكو ( 1926- 1984) وكارل بور (1902- 1994)
فهل كانوا مثل أبي العلاء وفضلوا العدم لأبنائهم وعندما يذكر أبو العلاء الدنيا فإنه يقول:
وما لنفسي خلاص من نوائبها
ولا لغيري إلا الكونُ في العدم
حيث جعل الكينونة في العدم هي الخلاص الأبدي له ولغيره وفي بيت آخر يضع الوجود بين طرفي عدمٍ:
في العدم كنا وحكم الله أوجدنا
ثم اتفقنا على ثانٍ من العدم
سيان عام ويوم في ذهابهما
كأن ما دام ثم انبت لم يدمِ
ويبقى السؤال هل هذه العدمية التي تطرق لها أبو العلاء المعري هي عدمية نيتشه التي تناولها في محاضراته، واستفاض في شرحها وشرح صاحبها نيتشه نفسه مارتن هايدغر (1889- 1976)
ربما أقدم المواقف الفلسفية المرتبطة بما يمكن وصفه بالنظرة العدمية هي مواقف المتشككين الذين أنكروا إمكانية اليقين، ومن عادة المتشككين أن يشجبوا الحقائق المتوارثة والتقليدية باعتبارها تفتقد في كثير من أحوالها إلى المبرر العقلي، وقد لاحظ ديموستنيس ( 348- 322 ق.م) على سبيل المثال؛ أنه لا أسهل من خداع الذات فكل ما تريده هو ما تؤمن به تماماً حيث يفترض الطبيعة العلائقية للمعرفة من منظور شكوكي مرتبط بالعدمية التي تنكر إمكانية قيام معرفة حقيقية جوهرية وربما هذه النظرة تلتقي مع الفلسفة السفسطائية؛ فالظواهر تعتمد على الجوهر لتحقق وجودها، ولا يعتمد الجوهر على شيء آخر لقيام وجوده الحقيقي، ومن ثم فإن الجوهر هو الحقيقي وما سواه فهو وهم ولا تكتسب الأشياء وجوداً حقيقياً إلا بمقدار اقترابها من الجوهر وبدونه لا يمكن أن تكون على ما هي عليه، والإيمان بالجوهر يعني الإيمان بمبدأ الثابت في الواقع، وأن هناك كليات مستقرة وثابتة وراء الجزئيات المتغيرة والعرضية، ومن ثم لا يؤمن العدميون السفسطائيون، ودعاة ما بعد الحداثة بوجود جوهر ما؛ فكل شيء متغير وعرضي وربما تصور نيتشه هذا الوضع كمتنبئ بتلاشي الحضارة الغربية عندما ينعدم الثابت وتكون المتغيرات في فضاء مفتوح، وغير محدد بلا مركز فإنها ستتبدد في النهاية وتضمحل؛ فالمركزية في الواقع درجات فأعلى درجات المركز إذا تسمَّحنا في العبارة الذي يعتمد عليه كل شيء؛ هو الله الذي أمسك السموات والأرض أن تزولا {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} فالله كما وصف نفسه رفيع الدرجات فله الدرجات العلى وهو مرتفع الوجود لأن وجوده أزليٌّ لا عن عدم، وبه وجود كل شيء؛ فالمركز على معنى المرجع الذي يرجع إليه كل شيء، ويعتمد عليه والله هو الأمان للكون كله من الزوال والاضمحلال، ويأتي بعده الأنبياء كما جاء في الحديث الصحيح (النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما يوعدون وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أنا أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) فالوجود قائم على المركزية، أو الثابت، وعند انعدام المركز يكون الدوران في فراغ مما يعني الفناء التام، والانهيار الكلي، وهذا هو الوجه القاتم من العدمية، وربما يكون هناك وجه آخر منلعدمية مشرق يتجلى عند الأديب العدمي يقارب الفلسفة الوجودية فكما ينسبلسارتر (الوجود سابق على الماهية) التي لا تفهم حق الفهم إلا عندما نقرنها لنقيضتها (الماهية سابق للوجود)؛ فإذا نظرنا للتاريخ وجدناه تاريخ فلسفة ماهيات فالإنسان شأنه شأن غيره من الكائنات ماهيته تسبق وجوده منذ أن يولد إلى أن يموت هو هو لكن الفلسفة الوجودية خالفت السائد ورأت أن الماهية شيء يبحث عنه حيث الإنسان صاحب القرار الوحيد في ذلك، وهنا الأديب العدمي ينحصر دوره في تذكير الإنسان بحدوده ومصيره حتى يستغل حياته استغلالاً عدمياً؛ فينضج فكره ويستقيم سلوكه ويختلف عن الحيوان الذي لا يدرك معنى العدم؛ فيرتفع إلى رتبة أعلى يدرك معه الفواصل المصطنعة في الحياة؛ لذلك قد نكون عدميين إيجابيين عندما نرفض القيم التي يعطينا إياها الآخرون من أجل إقامة قيم خاصة بنا؛ فالعدمية بهذا المعنى رائعة وجيدة؛ فأنا أرفض أن أكون مكاناً للآخرين ليمارسوا فيه أبشع ما جبلوا عليه، والعدمية السلبية تعني ألا أكون أنا ولكن أن أكون غيري تماماً مع أن هذا الغير ربما يكون عبارة عن تقاليد وأفكار بالية.
والحقيقة لا توجد منفردة بدون مغاير؛ والثنائية هي طريقة العلم والمعرفة، والإيمان؛ فالذين يريدون إلغاء الثنائيات قد جانبهم الصواب؛ ولا بد حينئذٍ منها والوجود لا يتحقق بدون العدم، والعدم لا يكون بدون الوجود، وربما على هذا المعنى تحمل فلسفة أبي العلاء المعري، ولعله كان مغرقاً فيها جداً، ولا شك أن من لطفت بصيرته، ورقت روحه رأى العدم محيطاً بكل شيء، ولا وجود إلا لما كان من الله في شيء.
ولذلك صدق النبي قول الشاعر:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيمٍ لا محالة زائلُ
بين مارتن هايدغر ونيتشه يمكننا أن نقترح هايدغر على أنه عدسة تفسيرية، ومكبرة لأعمال نيتشه يمكن بواسطتها قراءة نيتشه بشكل أوضح، ومعرفته بصورة أفضل، وليس بعيدًا أن نستشف نيتشه آخر لم نكن نعرفه من قبل ربما يحبه البعض بعد ذلك، وربما يكرهونه أكثر، ولا نشك أنهما أي نيتشه وهايدغر يتفقان في بعض الأمور ككون كل منهما مفكرًا راديكاليًا كان لهما علاقة بالفاشية والنازية كمنظرين أو مؤسسين لها، أو منتمين إليها لكنهما يتركزان حول فكرة إرادة القوة أو العدمية الأوروبية؛ إلا أن الإشكالية التي قد تعترضنا حينها في مثل هذه التفسيرات، أو هذا النوع من الطرح هي هل نحن نقوم بتفسير نيتشه، أو تفسير هايدغر، أو نقوم بالأمرين معاً مع الاتفاق بأن هايدغر كان يسعى لإبراز الوجه الحقيقي لنيتشه ليقول لنا هذا هو نيتشه كما لم تعرفوه، وهو ما يعني تماماً أن نيتشه كان وما زال محلاً للإشكال المستجد كل وقت: من هو نيتشه، ولا أقصد (بمن) هو نيتشه ما اسمه أو جنسيته بل (بمن) هو نيتشه الإنسان والمفكر، وهو ما يعني أن نرتقي من فعل القراءة في نيتشه إلى فعل التفكير في نيتشه أي أننا نفتح الفجوة التأويلية عند جاك دريدا حيث يقوم القارئ بتوليد قراءات عديدة للنص، وولادات جديدة للمعنى من مجموعة الرموز المتراكمة، والمتشابهة، والمتشابكة بحيث يصير هدف القراءة تحرير النص، وتصحيح انتشاره الدلالي بغرض كتابة أخرى للنص الأصلي، وهنا تقوم مسألة العمق اللغوي للنص كما لو كانت بئرًا سحيقة جدًا لا يصل دلو القراءة إلى آخرها، وإنما يأخذ من القطرات التي تنسكب على جوانبها من الأعلى .لذلك يقول (تودوروف)(1) النص الأدبي هو نزهة/ لعبة يقوم فيها المؤلف - الكاتب بوضع (البناء الأول)، ليأتي لها القارئ بالمعنى (البناء الثاني) وكما أن الماء لا يبلغ منتهى الصورة الجمالية إلا عند تدفقه، واضطرابه جارياً؛ فكذلك النص لا يكون إبداعياً إلا عند قلقه الدلالي؛ فالنص الثابت الذي لا يكون متحركاً حكم على نفسه بالموت؛ لذلك كان أفضل النصوص ما كان ممتلئاً بالرموز التي تفسح مجالاً واسعاً للتأمل، وهو ما يجعلنا نحكم على نص بالصلاحية عندما تكون منطقة المتحرك فيه أكبر من منطقة الثبات.
والمعلقون على النصوص يتبعون طرقًا مختلفة في تناول النصوص فمنها المباشر ومنها استخدام النص كقناع عن الذات حيث يستخدم هايدغر تفسيره لنيتشه كوسيلة للتعبير عن تفكيره حيث يرى هانز جورج جادامير أن نيتشه ما هو إلا الصورة الأخرى لكتاب الوجود والزمان لهايدغر، وأن معظم المحاضرات عن نيتشه تدور حول فكر هايدغر، وليس عن نيتشه وهنا يبرز مفهوم الجماعة، والعصبة حيث يبحث كل فرد عن جهة يفسح فيها عن مشاعره، أو آرائه وهو ما يعني أن المتجرد، أو الفيلسوف المحض، غير موجود فأنا عندما أتبناك في شيء فإنني في الواقع أتبنى ذاتي من خلالك؛ فالإنسان مع ذاته جماعة قد يختلفان، ويتفقان؛ فتنازعه نفسه إلى أشياء، ويخالفها هو إلى أشياء أخرى، ولكنهما شيء واحد يتقبل كل منهما الآخر، وهي أقوى الجماعات، وأصدقها ثم تتوسع الجماعات؛ فالرجل وأسرته، والرجل وقبيلته، والرجل ودولته، والرجل وأمته، والرجل وأصدقاؤه حيث تكمن قضية إبراز الذات من خلال مجموعة من المنظومات يقع خلالها دائرة متشابكة من العلاقات، وهذه الجماعات هي الآخر، وما ينطوي تحته من فلسفة، ومفهوم هل هو الآخر الصديق، أو العدو، أو المجاوز للأنا الوجودي إلى غير ذلك؛ فالذي لا ريب فيه أن كل إنسان يبحث عن ذاته وهو عمل دائب وواصب لإبرازها من خلال نفسه، أو من خلال الآخرين بأدوات الحس والعقل والشعور.
ويجادل الفيلسوف الإيطالي جياني فاتيمو من خلال القضية التأويلية بين الفلسفة والأدب؛ بأن نيتشه نفسه فتح الباب لفهم معنى فلسفة هايدغر، وبينما يعتبر هايدغر نيتشه آخر ميتافزيقي، أو بشكل محدد آخر الأفلاطونيين الذين شكلوا تاريخ الميتافيزيقيا الغربية الذين بإمكانهم الكشف عن المعنى الحقيقي لتاريخ الغرب غير أن الفرق بينهما أن افلاطون لا يذكر شيء باسمه وأما نيتشه فيما عدا (زرادشت) فإنه يذكر كل شيء باسمه ومع ذلك؛ فيلاحظ فاتيمو أن نيتشه تم عرضه أو الاستيلاء عليه باعتباره مقدمة لفلسفة ما بعد الميتافيزيقية.
وعند الكلام على الأنطولوجيا التخمينية لماذا نيتشه، وهايدغر بالتحديد، وما علاقتهما بالعدمية الأوروبية، وهل هي قضية عقلية خالصة، أم مأزق تاريخي ربما نيتشه الوجه القاتم والمقابل لفلسفة هيجل؛ فكلاهما يفترض صيرورة معينة لكن هيجل يتجه إلى السعادة الأبدية أما نيتشه فإلى العدمية المرعبة؛ ولعل هايدغر كان في منطقة في المنتصف عندما اعتبر العدمية سؤالاً عن الوجود والزمان حيث اعتبر هايدغر أن الزمان هو الأفق الترانسندنتالي المتعالي الذي ننظر منه إلى السؤال عن الوجود؛ إذ إنه بالزمان والزمانية يفسر الدازاين (Da-sein) (الوجود) حيث يستخدم هايدغر هذه الكلمة للدلالة على كينونة الموجود الإنساني؛ أي الإنسان من حيث هو الكائن المنفتح على الكون في تغيره وعدم استقراره؛ فماهية الإنسان إذاً هو وجوده وحقيقته نزوعه إلى ما يريد أن يكون عليه، والقلق كترجمة لما يطلق عليه هايدغر بالألمانية (Angst)، وهو ما اختاره مترجمو هايدغر للعربية وربما لفظة التوجس أقرب(2)؛ لأن الترجمة الأولى توحي بألوان القلق في الحياة اليومية المألوفة، أكثر بكثير مما تعبر عن ذلك الانفعال النادر والدقيق الذي يود الوجوديون أن يشيروا إليه بالكلمة (Angst) فالقلق عادة يكون من شيء ظاهر أما التوجس فهو الصفة الخفية الملازمة للإنسان من شيء ما يجده يعمل في داخله ولا يدري ما هو لكنه يؤثر على تصرفاته، وطريقة حياته، وقراره الشخصي، وهو ألزم بالمعنى النفسي الغائب عن الإدراك الكلي، أو التام؛ إن هذا التوجس وضع كينونتنا في مواجهة العدم؛ فيقول (إن التوجس يبقينا معلقين هكذا لأنه يحدث انزلاقاً للموجود بمجمله)(3) هذا الانزلاق نحو الهاوية الغامضة، والتوجس على الوجود من العدم مع أن هذا العدم في الواقع لا يعارض الوجود بل في الحقيقية هو لبُّ الوجود يقول سارتر (إذا أمكن أن يعطى عدم فلن يكون ذلك قبل ولا بعد الوجود ولا خارج الوجود بل في حضن الوجود وفي قلبه كالحشرة في الفاكهة)(4) (إن العدم جزء من كيان الوجود، ومن تصميمه، وهو شرط لتحقق الوجود وانكشافه؛ لأن العدم ينكشف في كل فعل من أفعال الوجود يظهر في السلب، وفي إتيان فعل من الأفعال لأن الفعل يقتضي اختيارًا ووجهًا من وجوه الممكن)(5) وهذا كله يفضي إلى أن تحقيق واقع إنساني يعني الاحتجاز داخل العدم. وهايدغر في فهمه للزمن يختلف عن كانط؛ فالزمان عند كانط مثل المكان مقولة قبلية ثابتة نتاج خالص للعقل لبشري؛ فهي مقلة إدراكية للوقائع حيث ينطلق كانط من مسلمة أولى وهي أن الزمان لا دافع له خارج الذات وهو نفس التعريف الذي أخذه هايدغر فيما بعد ليقول من خلاله إن تزمن الزمان هو المؤسس للذات المفكرة(6)، ولكنه يذهب أوسع من ذلك عندما يقول: إنه بقدر تزمن الموجود الإنساني نفسه يكون في العالم؛ فالتزمن هو الذي يحقق وجود الموجود في العالم؛ فالخاصية الأساسية للدازاين هي التزمن، وليس هو الوجود داخل الزمن فالأشياء هي التي توجد داخل الزمن بينما الإنسان من الداخل نسيج الزمن، واكتساب الهوية، أو الوعي بالذات لا يمكن أن يكون بدون مرور الزمن(7)، وهو الذي يقول في كتابه الزمان والوجود: (إن الزمان لا يعطى بدون الإنسان والإنسان هو الحضور بوصفه المستقبل للهبة التي تعطى باعتبار الزمان هبةً لا شيئا)؛ فالعدمية التي تلوح من هايدغر، ومن كتاباته تختلف تماماً عن عدمية نيتشه؛ مع أن نيتشه يفرق بين العدمية السلبية، والفعالة (الإيجابية)؛ إلا أنه كما يظهر يتنبأ بالعدمية السلبية للعالم الغربي فكما في إرادة القوة له (العدمية ليست فقط الاعتقاد بأن كل شيء يجب أن ينتهي بل تعني أن نضع المعول في يد كل شخص ليقوم بالتدمير نفسه).
وربما كان هايدغر يقرر بنحو ما طبيعية هذه العدمية النتشوية، وأنها تتكشف تماماً مع كامل التاريخ الغربي، وأيديولوجياته الرئيسة: الفاشية، والاشتراكية، والشيوعية، والليبرالية، والديمقراطية العالمية، وغيرها من المذاهب والأيديولوجيات حتى انتهينا لعصر التكنولوجيا الذي حدده هايدغر كعصر للعدمية؛ مع أنه أيضًا يرى تطابق التكنولوجيات والميتافيزيقيا الحديثة حيث يقول: «machine technology [is] identical with the essence of modern metaphysics «(8) فيكون عندنا/ العدمية/ الميتافيزيقيا/ التكنولوجيا، وفي ارتباط العدمية بالميتافيزيقيا مذاهب دينية واضحة جداً، وفلسفية؛ فقصة أفلاطون في عالم المثل وأصحاب الكهف المقيدين بسلاسل قوية ورؤوسهم تنظر إلى داخل الكهف، وليس للخارج، ومن خلفهم هناك نار مشتعلة، وبين النار وباب الكهف يمشي أناس تنعكس صورهم والأشياء التي يحملونها على الحائط؛ فعندما ينظرون إلى الحائط يظنون أن العالم الحقيقي هو ذلك الحائط الذي تتحرك عليه الصور وبينما هم غارقون في حسهم يقوم أحدهم بفك القيد هذا هو الفيلسوف عندما يتحرر من الحس ويخرج من الكهف الذي يرمز للفكر العامي، وعند خروجه يرى الشمس (الحقيقة) ويتبين له أن كل الذي كان يراه منعكساً على الحائط ما هو إلا ظلال أشباح، وأن العالم الحقيقي هو عالم ما ورائي موجود خلفه؛ فقرر أن يعود لأصحابه ليخلصهم من قيد الجهل، وهذه عودة سقراط؛ فدخل من جديد للكهف وقال لهم إن كل ما ترونه عبارة عن أوهام وخلاف الواقع، وأن الحقيقة تكمن في الماورائية؛ فأراد نزع الأغلال عنهم فضربوه، وقالوا لا تنزع الأغلال التي اعتدنا عليها، وألفناها منذ القدم، وقاموا بعمل امتحان له فقالوا انظر ماذا ترى على الجدار، وهذا الفيلسوف كان قد رأى الحقيقة مكتملة، وما حاله إلا كمن خرج من غرفة شديدة الظلمة إلى شدة الضوء، ثم عاد ولم يستطع أن يرى ما بداخل الغرفة المظلمة لأن هذا يحتاج إلى وقت فقتلوه؛ ولا يخفى ما في هذه القصة من العدم حيث حكم الفيلسوف على كل ما رآه المقيدون؛ بأنه غير حقيقي وتتجلى العدمية أكثر في المثالية اللامادية، وهي مثالية بيركلي الذي لا يعترف بوجود أية حقائق خارجية، ويتصور أن كل الوقائع والموجودات المادية الحسية التي نراها ونتعايشها لا وجود لها على أرض الواقع؛ فالعدم شيء ممارس في حياتنا وواقعنا بصور مختلفة، ويترقى إلى درجات أكثر كثافة ووضوحاً، وأما بخصوص ربط هايدغر للكنولوجيا بالميتافيزيقيا وتشابكهما تماماً في نظره؛ فلأن التنوير في نظره قام مقام الميتافيزيقيا في قضية السيطرة على الوجود والكائنات فماهي فلسفة الميتافيزيقيا هي من خلال وضع تفسير معين للحياة، ونمط معين للتفكير يتحرك من خلاله جميع الكائنات حل محلها الميتافيزيقيا الحديثة (التنوير/ الحداثة)، وأعظم أدواتها هي الآلة والتكنولوجيا التي تتطابق معها وتعمل على التحكم بكل شيء بل وتفسده في أحيان كثيرة.
وبالنظر لمحاضرات هايدغر عن نيتشه والعدمية فقد قدم بين عام 1935 - 1945 أعمق التأملات حول العدمية والحداثة وكانت ميزته أنه مقابل كم هائل من التفسيرات الخاطئة لنيتشه فتح نافذة للتفكير من جديد لقد لاحظ أن مناقشة نيتشه للعدمية في جزء كبير منه كحركة مضاد للميتافيزيقيا؛ لكن هايدغر يركز على محاولة تجاوز العدمية وأنها الخطوة الكلاسيكية للعدمية هذا ما يصر عليه مرارًا وتكرارًا؛ ذلك أننا نفهم نوعين من العدمية يفهمها نيتشه الأول: الدمار والإبادة والانحلال التام والثاني: هو العدمية الكلاسيكية باعتبارها شرطًا للتقييم الجديد، وهو ما يعرف بالعدمية الكاملة وهي المرحلة أو النهاية التي يتم فيها إعادة تقييم كل القيم وإذا تحققت العدمية الكاملة؛ فإنه بالإمكان التخلي عنها وإيجاد تصنيفات جديدة للقيم والتقدير. ويمكننا في النهاية أن نقول إن هايدغر في دراسته المطولة لنيتشه التي امتدت من منتصف الثلاثينيات إلى أوائل الخمسينيات اعتبر مواقف نيتشه هي النتيجة الحتمية للميتافيزيقا الحديثة وأن الرجل الأعلى أو الرجل الأخير تم الاستيلاء عليهما من قبلها في توجهها نحو الذاتية والعولمة في طريقها للعدمية.