زكية إبراهيم الحجي
لئن كان فكر الإنسان أعجبَ ما في الإنسان.. فإن هذا الفكر قد أبدع عجائب ثلاثاً جعلت لحياتنا معنى.. تمثّلت تلك العجائب في الكلمة والحرف والمطبعة مما ساعد في تشكيل ثقافة زاخرة بقيت متألقة بوهج البدايات التي كسرت حدود المكان والزمان لتجوب جغرافية الأرض شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً.. هكذا كانت رحلة الفكر والعقلية العلمية العربية الإسلامية عندما كانت في أوج ازدهارها وتألقها بصمة فكرية عربية إسلامية كونت شعار عصر التنوير الأوروبي القائل «لتكن لديك الشجاعة لاستخدام عقلك» ولعل الكثير من منصفي الغرب لا يزال يدين بالفضل للعرب والمسلمين الذين أثروا مكتبات الغرب بعصارة عقولهم وفكرهم.. من هؤلاء على سبيل المثال «غوته» أحد أشهر أدباء ألمانيا المتميزين والذي كان له بالغ الأثر في الحياة الأدبية والفلسفية وما زال التاريخ يتذكر أعماله الخالدة التي تزخر بها أرفف مكتبات العالم يقول «غوته» إن العرب علمونا صنع الكتاب وصنع البارود وهم أرباب تجارب حاذقة وقد أغنوا العلم ويستطرد قائلاً: فعلينا أن نفكر ماذا كانت نهضتنا لو لم يكن من ورائها تلك الكنوز التي وصلتنا من الحضارة العربية والإسلامية.
إذاً لا عجب أن يكون كل عمل عظيم نخاعه فكر وذكاء ودافعية.. مكابدة وصبر وجلد وهذا ما ميز الحقبة التاريخية التي عاش خلالها العرب والمسلمون الأوائل.. ولكن ماذا لو تصحَّر الفكر وغاب الوعي العلمي والمعرفي واكتنزت العقول بزخرف الخرافات وأصبح الإنسان أسير أفق محدود ولم يعد لديه شغف البحث والاستكشاف وتنشيط طاقاته العقلية وأنجر وراء بريق المعارف والأفكار الجاهزة كما ينجر وراء المأكولات الجاهزة والمعلبة.. فإذا كان التصحر يرتبط بالمكان وهو ما يعني تحول المكان إلى صحراء قاحلة لا زرع فيها نتيجة القحط والجفاف لذلك فالمناطق الفكرية لا تقل أهمية عن المناطق المكانية التي أصابها التصحّر الذي هو متلازمة جدب الفكر القائم على العلم والمعرفة مثلما هو متلازمة جدب الأرض القائمة على الماء. إن آليات تصحّر الفكر تتمثَّل في ضبابية المفاهيم التي يتناولها أي فرد من غير معرفة دقيقة لمضامينها وأبعادها إما بسبب قوقعة الانغلاق التي عاش داخلها أو بسبب التبعية الناشئة من فعل الأمر الذي ما فتئنا نستخدمه في بيوتنا وفي مدارسنا.. في تربية أبنائنا وفي معاملاتنا مع الآخرين «افعل دون نقاش» وفي هذا السياق تحضرني حكاية سبق أن قرأتها عن الفيلسوف الأمريكي «جوزيه رويس» مؤسس معهد المثالية الأمريكية عام 1884م تقول الحكاية بأن والده قال له يوماً «اخلع حذاءك دون نقاش» فخلع حذاءه دون نقاش وفي ذات الوقت أضرب عن الكلام لعدة أيام فكان أول ما تفوه به بعد الإضراب قوله: إن التصحّر الفكري آفة تغتال العقول البشرية الصامتة لذلك يجب أن نخرج من دائرة الصمت وندخل في استمطار الأفكار.