د.جيرار ديب
استخدم غراهام تي أليسون، عالم السياسة والكاتب الأمريكي في كتابه «الاتجاه نحو الحرب» عبارة «فخ ثيوسيديدز» التي تشير حسب قوله إلى النظرية القائلة إنه عندما تهدد إحدى القوى العظمى الصاعدة، أخرى تكون قائمة، تكون الحرب بينهما حتمية. يتبع مصطلح أليسون النص القديم «تاريخ الحرب البيلوبونيسية» الذي كتب فيه ثيوسيديديز «ما جعل الحرب لا مفر منها هو القوة الأثينية الصاعدة، والخوف الذي تسبب به هذا في سبارتا القوة القائمة».
يعيش عالمنا اليوم، مرحلة ما قبل الحرب الحتمية، حيث صعود كل من الصين وروسيا كقوتين عالميتين صاعدتين، باتتا تهددان فعليًا مصالح ونفوذ القوة القائمة المتمثلة بالولايات المتحدة. لذا، رغم كافة الخطابات التهدوية بين المسؤولين، واللقاءات، إلا أنّ مسار الأمور يتّجه نحو الصدام. فقد جاء في خطاب الرئيس الأمريكي جو بايدن، في كلمته التي ألقاها الجمعة 28 - 5 - 2021، أمام عسكريين أمريكيين في قاعدة بولاية فيرجينيا، «نحن في معركة بين الأنظمة الديمقراطية والتسلطية، وإن الصين بحسب ما يعتقد رئيسها شي جين بينغ، تعتقد أنها بحلول 2035 ستتمكن من امتلاك الولايات المتحدة».
أمام هذا الصراع القائم بين القوة الصاعدة والقوة القائمة، نتساءل، هل كان انفجار المرفأ مفتعلًا في سبيل إعادة بنائه بحسب من سيضع يده عليه؟ وأين مرفأ بيروت من الحرب البيلوبونيسية الجديدة، القائمة بين النظام الديمقراطي والنظام التسلطي؟ وكيف يشكل هذا المرفأ بموقعه الجيواستراتيجي نقطة محورية لصراع الدول عليه؟
أسئلة باتت تُطرح بعد انفجار المرفأ في 4 آب 2020، مع ازدياد حركة التنافس الدولي لإعادة بنائه من جديد بما يتناسب وسياساتها التحكمية في المنطقة، وليس بما يتناسب ومصالح لبنان. فحجز مكان على البحر الأبيض المتوسط، والتمركز في نقطة الوصل بين الشرق والغرب، يشكل أولويات الدول الصاعدة، ويهدد مصالح الدول القائمة.
جدية التصدي لأي محاولة للهيمنة على مرفأ بيروت، برزت في تقرير نشره معهد واشنطن في دراسات الشرق الأدنى، حذر فيه ديفيد شينكر الدبلوماسي الأمريكي الذي يقوم بدور الوساطة بين لبنان وإسرائيل في ملف ترسيم الحدود البحرية، من الطموح الصيني في لبنان عبر بوابة المرفأ، واعتبر أن أي دور فعال للصين سيشكل النتيجة الأسوأ لأوروبا والولايات المتحدة. كيف لا، والصين رصدت مليارات من الدولارات لخطتها التي أفصحت عنها عام 2013 «الطريق والحزام»، حيث يعد مرفأ بيروت نقطة الوصل على البحر المتوسط، بعدما سبقتها روسيا على موانئ سوريا، فأصبحت وجهتها مرفأ بيروت. كما أن اهتمام الصين في الاستثمار في المرفأ يعد في غاية الضرورة، لأنه يشكل نافذة مباشرة إلى العراق وأربيل.
الصين ليست الوحيدة المهتمة بإعادة هيكلية بناء مرفأ بيروت، بل روسيا أيضًا، فالزيارة التي قام بها مسؤولون روس إلى لبنان دليل أكيد على رغبة روسيا في الاستثمار فيه. فقد قامت شركات روسية برئاسة السفير الروسي في لبنان ألكسندر روداكوف بزيارة للمسؤولين في لبنان، ونقلت وكالة سبوتنيك الروسية أن الوفد الروسي أعرب عن رغبته الشديدة في المساهمة الفعالة من خلال نظام BOT لمشاريع حيوية في لبنان وعلى رأسها إعادة إعمار مرفأ بيروت.
اهتمام أمريكا في مرفأ بيروت، يرتبط بمصالح حلفائها من جهة، لا سيما الفرنسي والإسرائيلي، وبعرقلة التقدم البحري للروسي والصيني، ومن خلفه الإيراني. اعتبرت تقارير استخباراتية أن المرفأ شكّل نقطة مهمة لتدفق الصواريخ إلى حزب الله، وللالتفاف على قانون قيصر المفروض على النظام في سوريا من قبل الإدارة الأمريكية.
صحيح أن هناك ضوءًا أحمر من قبل إدارة بايدن، لإعطاء امتياز التفاوض للفرنسي في الساحة اللبنانية، إلا أن لفرنسا رؤية استراتيجية قديمة حول هذا المرفأ تحديدًا، كبوابة على البحر المتوسط. ففي أعقاب الحرب اللبنانية عام 1975، ومع صدور قرار مجلس الأمن الدولي بوقف إطلاق النار، اجتمعت في باريس «أكاديمية العلوم لما وراء البحار، وتبنت بالإجماع مشروع حل نهائي للأزمة اللبنانية».
وتمنت الأكاديمية في بيانها أن يعطي هذا الحل جميع الفئات المعنية ضمانات متساوية وأكيدة ودائمة». فهي تقترح حيادًا كاملًا للأراضي اللبنانية، وإقامة مرفأ حر في بيروت. ماذا يعني مرفأ حرّ؟ وهل تدخل الرئيس الفرنسي ضمن مبادرة إنقاذية للبنان، هو لجعل المرفأ حرًا؟ أم لوضعه ضمن الاستراتيجية الفرنسية المنتشرة من الساحل الإفريقي تحديدًا الاعتراف بمجازر فرنسا في مالي إلى ليبيا وصولًا إلى لبنان، وتحديدًا مرفأه، تمهيدًا للتنقيب عن النفط والغاز على شواطئه من قبل شركة توتال الفرنسية.
ليس من باب الصدفة، أن تتفاقم الأزمات وتتسارع الانهيارات الاقتصادية والمالية، وتُفرض العزلة الدولية لتقويض لبنان بعد وصول رئيس الجمهورية ميشال عون المحسوب على محور إيران - روسيا، حيث لا يتوانى فريقه السياسي، ولا حليفه الإستراتيجي حزب الله بالدعوة للتوجه شرقًا في الاقتصاد والتحالف. هذا وإن دلّ على شيء، فعلى أنّ لبنان وقع في فخ ثيوسيديدز، أو أقحم نفسه في أتون التمهيدات للحرب، بعد رفض سياسة الحياد التي طالب بها بطريركه بشارة الراعي. وأن لا حلول ولا انفراجات إلا بعد تلزيم إعادة بناء مرفأه، عندها ستنجلي الغيمة السوداء، وسيكون لبنان أمام خيارات مرتبطة مباشرة بالتلزيم لمرفئه.