سهام القحطاني
قال عنها الروم أثناء حربهم مع المسلمين «إن كان القوم كلهم مثل هذا الفارس فما لنا بهم طاقة».
امرأة عربية مسلمة هزّت جيشًا عظيمًا مثل جيش الروم لم يستطع فارساً مسلماً حينها أن يفعل كما فعلت.
وُصفت عندما كانت تقاتل الروم في معركة أجنادين لفكّ أسر أخيها «فحمل على عساكر الروم كأنه النار المحرقة، فزعزع كتائبهم وحطم مواكبهم ثم غاب في وسطهم فما كانت إلا جولة الجائل حتى خرج وسنانه ملطخة بالدماء من الروم وقد قتل رجالاً وجندل أبطالاً وقد عرّض نفسه للهلاك ثم اخترق القوم غير مكترث بهم ولا خائف وعطف على كراديس الروم.. ونُظر إلى الفارس وقد خرج كأنه شعلة نار والخيل في أثره، وكلما لحقت به الروم لوى عليهم وجندل..، فأما رافع بن عمير ومن معه فما ظنوا إلا أنه خالد وقالوا ما هذه الحملات إلا لخالد. «كتاب فتوح الشام - الواقدي - دار الكتب العربية - 1997م - ج1 ص41-.
شهد لها خالد بن الوليد بالقدرة والمهارة على القتال وقال عنها وهو يتأملها تقاتل الروم «لله درك من فارس بذل مهجته في سبيل الله وأظهر شجاعته على الأعداء».
وقبل هذه الواقعة استطاع الروم أسر خولة بنت الأزور وبعض النساء وحجزهن في خيام بعيداً عن أرض المعركة تحت حراسة مشددة لأخذهن سبايا بعد انتهاء العرب.
إلا أن خولة لم تستلم لهذا المصير ولم تجلس منتظرة النجاة من الجيش الإسلامي ولذا فكرت في كيفية التخلص من الأسر رغم الحجز وعدم امتلاك أسلحة مقاومة ودفاع، فاجتمعت بالأسيرات وخطبت فيهن قائلة: «يا بنات حمير بقية تبع أترضين بأنفسكن علوج الروم، ويكون أولادكن عبيداً لأهل الشرك؟ فأين شجاعتكن وبراعتكن التي نتحدث بها عنكن في أحياء العرب، ولا أراكن بمعزل عن ذلك، وإني أرى القتل عليكن أهون من هذه المصائب وما نزل بكن من خدمة الروم الكلاب.
فقالت عفرة بنت غفار الحميرية: صدقت والله يا بنت الأزور، نحن في الشجاعة كما ذكرت، وفي البراعة كما وصفت، لنا المشاهد العظام والمواقف الجسام، ووالله لقد اعتدنا ركوب الخيل وهجوم الليل غير أن السيف يُحسن فعله في مثل هذا الوقت، فقالت خولة يا بنات التبابعة والعمالقة خذوا أعمدة الخيام وأوتاد الأطناب ونحمل بها على هؤلاء اللئام فلعل الله ينصرنا عليهم أو نستريح من معرة العرب، فقالت عفرة الحميرية والله ما دعوت إلا ما هو أحب إلينا مما ذكرت، ثم تناولت كل واحدة عموداً من أعمدة الخيام وصحن صيحة واحدة، وتقدمت خولة ومن ورائها غفرة ثم الباقيات، وقالت خولة لا ينفك بعضكن عن بعض وكن كالحلقة الدائرة ولا تتفرقن فتملكن فيقع بكن التشتيت وحطمن رماح القوم واكسرن سيوفهم، فهجمت خولة أمامهن فضربت رجلاً من القوم على هامته فتجندل.. وهجمن على الروم وهنا يحرضن بعضهن البعض متن كراماً ولا تمتن لئاماً وخولة تنشد:
نحن بنات تبع وحمير
وضربنا في القوم ليس ينكر
لأننا في الحرب نار تسعر
اليوم تسقون العذاب الأكبر
وظلت النسوة بقيادة خولة بنت الأزور في الهجوم على الروم حتى قتلن ثلاثين رجلا منهم وظلت المعركة بينهن وبين جنود الروم حتى جاء ضرار بن الأزور مع خالد بن الوليد وأنقذ النساء. «كتاب فتوح الشام - ج1 - ص50-.
وإذا تأملنا خطبة خولة بنت الأزور في النساء لإثارة حماسهن للمقاومة ومقاتلة جنود الروم سنلاحظ قدرة هذه المرأة الفارسة على تشكيل خطاب حماسي قادر على التغلغل في نفوس المستمعات، خطاب استثمر السيمائيات الوراثية والمكتسبة مثل الوجدان التاريخي والديني وتقدير الذات وتضخيمها لتحقيق ثقة المتلقي بذاته وقدرته على المقاومة والانتصار، كما ركز على توجيه خيال المتلقي إلى إمكانية وقوع خطر في حالة الصمت والسلبية وهو ما يعني القصد إلى إثارة الخوف سواء المادي في نتائج الأسر بأن يصبحن أمهات لعبيد الكفار، أو الخوف المعنوي سيرة العار التي ستصاحب تاريخهن وتاريخ قبائلهن وهو استثمار وإثارة للتحيز على ردة الفعل المقصودة وهي مقاومة جنود الروم.
ولم يكن الخطاب فقط هو الذي منح خولة بنت الأزور ثقة النساء، بل قدرتها أيضاً على حلّ المشكلات وإيجاد البدائل كما فعلت عندما وجهت أنظارهن إلى استخدام أعمدة الخيام وأوتاد الأطناب كمعادل للسلاح الذي سيمكنهن من مقاتلة جنود الروم، ولعل النساء كما رأينا من خلال عفرة الحميرية مع اقتناعهن بما قالته خولة إلا أن مدى واقعية المقاومة لم تكن متحققة رغم شجاعة النساء ومهارتهن في ركوب الخيل وهجوم الليل دون سلاح لكن بمجرد إيجاد بديل السلاح أي تحول الخطاب من مستوى التنظير إلى مستوى التخطيط والتنفيذ وتوفير وسائل هذا التنفيذ مع خطة إجرائية لتحويط جنود الروم ليصبح قتالهم أسهل عليهن، وبهذا الخطاب والخطة استطاعت خولة إنقاذ النسوة من مستقبل سجن الأسر والسبي.
وهذه الحادثة تكشف لنا أيضاً قوة المرأة الخفية وقدرتها على مقاومة العنف والاضطهاد، فليس هناك امرأة ضعيفة وإن فقدت وسائل المقاومة لأن القوة الحقيقة تنبع من داخلها ومتى ما تفجرت استطاعت أن تُشكل وسائلها الخاصة لمقاومة أي عنف أو اضطهاد.
ومع كل هذه النجومية التاريخية التي تحظى بها خولة بنت الأزور في ذاكرة التاريخ العربي تكتشف أن تلك النجومية هي «لوهم أو لشبح» لا وجود له في واقع أي صلاحية زمانية أو مكانية مُقيدة بتأريخ أو ذاكرة.
هذا الاغتيال العلني لخولة بنت الأزور الذي شهدته صفحات التاريخ الإسلامي، لا يقصد شخصية خولة بنت الأزور المحاربة التي تفوقت بشجاعتها وذكائها الحربي على أقوى قادة العصر الإسلامي خالد بن الوليد الذي حاربت بجانبه وأبهرت الجميع بقوتها، بل قصد اغتيال دور المرأة المسلمة ذاتها وقطع الطريق عليها لممارسة دورها البطولي الحربي لأن ذلك كان يعني حضوراً سياسياً مصاحباً للحضور العسكري والحربي وتفوقها في الحرب يضمن لها استحقاق الدور السياسي.
فهل صحيح أن شخصية خولة بنت الأزور شخصية وهمية لا وجود لها كما يزعم مؤرخو المسلمين الأوائل؟ أو أن خولة بنت الأزور تعرضت لعملية اغتيال تاريخي حولتها إلى وهم حتى لا تُصبح أسطورة في التاريخ الإسلامي يسير على نهجها الأُخريات؟
هذا ما تزعمه ذكورية التاريخ العربي الإسلامي أن خولة صاحبة البطولات أسطورة الحرب هي مجرد وهم من اختلاق «مؤلف مجهول» صاحب كتاب فتوح الشام والذي نُسب بالكذب إلى الواقدي، فقد أنكر ابن حجر في كتابه شخصية خولة وقال إن لضرار بن الأزور ثلاثة أخوة جميعهم ذكور، وأنكر أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني وجود هذه الشخصية، كما أنكر وجودها كذلك كل من ابن قتيبة الدينوري وابن سلام الجمحي في كتابهما الشعر والشعراء وطبقات فحول الشعراء.
أما الكتب التي تم ذكر خولة بنت الأزور فلا يقيم لها المؤرخون أي اعتبار بسبب اعتمادها على كتاب «فتوح الشام» ومؤلفه مجهول الهوية، وما بُني على باطل فهو باطل كما هو شائع في المنطق العربي.
وإذا أردنا تعليل اغتيال ذكورية التاريخ العربي لشخصية خولة بنت الأزور وتحويلها إلى وهم مع العمد وسبق الإصرار فهناك العديد من الأسباب سأكتفي بسببين:
السبب الأول: حساسية الفترة الزمنية التي ظهرت فيها خولة بنت الأزور وهي بداية الخلافة الراشدية العصر السلفي الأول وبقاء النظرة الذكورية للمرأة سواء المترسبة من الجاهلية أو النظرة الدينية المتطرفة للمرأة التي فُهمت على غير وجهها الصحيح بحرمانية الاختلاط وفتنة المرأة على مستوى الصوت والشكل، والإقرار بوجود شخصية خولة بنت الأزور الفارسة التي حاربت مع جيش خالد بن الوليد وقاتلت الروم بكل بسالة لفك أسر أخيها يعني تجويز الاختلاط بين النساء والرجال ويعني شرعية الدور العسكري والحربي للمرأة في الإسلام، لذا فإن اغتيال شخصية خولة بنت الأزور تاريخياً هو إنقاذ النظرة الدينية المتطرفة من دهاليز تلك الأحكام الفقهية.
وفي هذا المقام أريد التأكيد أن هذه ليست رؤية الإسلام للمرأة بل نظرة التطرف الديني لها.
أما السبب الآخر: فهو جذب خولة بنت الأزور ضوء البطولة من خالد بن الوليد الذي كان أيقونة البطولة في عصر الخلفاء الراشدين، هذا التفوق البطولي لامرأة على رجل كان هو أيقونة البطولة للمسلمين له دلالته الخطيرة فهو يعني تفوق القدرة والمهارة للمرأة والذي يعني إبطال فكرة أعلوية وأفضلية الرجل على المرأة ودعماً لفكرة المساواة بين الرجل والمرأة في ذلك العصر الذي يُعد من أشد العصور الإسلامية تطرفاً، فقد أعتقد أصحاب ذلك العصر أن التطرف يحمي الإسلام بعد موت الرسول الكريم فكان من الحب ما قتل صاحبه.
وبذلك كان استمرار حياة شخصية خولة بنت الأزور مهددة لقيم تبناها أصحاب التطرف الديني في ذلك الوقت لفرضها على واقع المجتمع الإسلامي ولذلك كان اغتيال شخصيتها تاريخياً وتحويلها إلى وهم مخرج للفكر الجديد الذي تحمله خولة بنت الأزور الذي كان يتناقض مع قيم وأفكار صنّاع القرار السياسي والديني والاجتماعي في ذلك الوقت.
وكان من السهل إتمام عملية الاغتيال تلك باعتبار أن الرجل هو الذي يكتب التاريخ ويقرر الحقيقي منه والوهمي، ورغم قرار اغتيال شخصية خولة بنت الأزور بأقلام الذكورية التاريخية إلا أنها استطاعت الفرار من حكم ذلك القرار سواء كشبح أو وهم لتُصبح أسطورة المحاربة الملثمة التي فتنت ذاكرة العرب التاريخية حتى اليوم فاسمها اليوم هو المذكور ومن وقع قرار اغتيالها اسمه هو الخفي.
هذه هي خولة بنت الأزور إحدى الناجيات من ظلم واضطهاد واغتيال ذكورية التاريخ، لقد كان قدرها خارج التاريخ وداخله أن تظل أسطورة المحاربة الملثمة.