إعداد - صبار عابر العنزي:
شخصية ارتبط اسمها بتاريخ العرب الحديث بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى انتهاء الحرب العالمية الثانية، رجل مميز ومتفرد من أسرة إنجليزية -إيرلندية عاش مسيرة أجداده القدامى في خدمة الإمبراطورية البريطانية، إذ خدم في الجيش كأحد الرواد الأوائل متأثرًا بوالده الذي كان يقوم بالتدريس العسكري.
جاء «أبا حنيك» من صقيع أوروبا إلى صحاري الجزيرة، حيث وُلد في پرستون، لانكشاير، ودرس في كلية تشلتنهام، وتم تكليفه في سلاح المهندسين الملكيين عام 1915م على الجبهة الغربية، أصيب بكسر في الفك، ولهذا السبب أطلق عليه في السنوات اللاحقة كنية أبو حنيك، أي «ذو الفك الصغير».
جاء من حانات وبارات وحدائق الغرب الغناء إلى الصحراء في زمهريرها وحرها ليعيش حياة البدو الرحل يحتسي ما يحتسون من القهوة العربية في عز صيفها، واستطاع أن يوطن المزاج البريطاني البارد ويخضعه للمزاج العربي المتحفز في ذلك الوقت، جاء من فطائر الصباح الإنجليزية المقتضبة إلى الصياني العربية الدسمة والحارة.
أبو حنيك وسيرته
هو السير جون باغوت غلوب أو غلوب باشا كما يسميه العرب، إيرلندي الأصل، بريطاني الجنسية، ولد في بريطانيا عام 1897 وتوفي فيها عام 1986 عن عمر ناهز تسعة وثمانين عاماً، تزوج من امرأة فلسطينية الجنسية وعند وفاته انتقلت الزوجة والأولاد إلى الكويت، لم ينجب أبناء، له ولد بالتبني اسمه جودفري من مواليد عام 1939 ميلاديًا، اعتنق الإسلام وغيَّر اسمه إلى فارس، وهو مؤرخ وشاعر وامتهن مهنة الصحافة، أطلق عليه الملك عبد الله اسم «فارس» لأن هذا الاسم على علاقة بالصحراء، تزوج من سيدة أردنية من أصول فلسطينية، وأنجب منها ابنة اسمها سارة، وله أيضاً ابنة اسمها ناومي، انتقل فارس مع ناومي وزوجة غلوب باشا إلى الكويت بعد وفاة والدهم...
توفيت زوجة غلوب باشا عام 2005 م في الكويت، وتوفي فارس الذي كان يعمل بوكالة الأنباء الكويتية «كونا» إثر حادث داس بالسيارة عام 2004 بعد خروجه من مقر عمله بالكويت، عن عمر يناهز 64 عاماً، أما ابنته ناومي فقد توفيت عام 2010م...
أقسم إنني لم أقل إلا الحقيقة
«أقسم إنني لم أقل إلا الحقيقة» بهذه العبارة ختم جلوب باشا كتابه «أزمة الشرق الأوسط»، مدافعًا عن نفسه تهمة العمالة والتواطؤ مع الصهاينة أثناء نكبة 1948 حيث يتهم بسوء إدارة قيادة الجيوش العربية مجتمعة وحدوث حادثة الأسلحة الفاسدة الشهيرة التي أدت لخسارة العرب للحرب.
زاره قبل وفاته الشيخ عبد العزيز التويجري وسجل عنه في كتابه رسائل أخاف عليها من الضياع، خدم جلوب باشا في فرنسا أثناء الحرب العالمية الأولى، ثم تم نقله إلى العراق عام 1920، حيث كان العراق تحت الانتداب البريطاني في ذلك الوقت.
مكث في منصب قيادة الجيش العربي الأردني حتى 2 آذار (مارس) 1956 وتم إعفاؤه من قبل الملك الحسين بن طلال بالتنسيق مع حركة الضباط الأحرار الأردنيين من مهامه في قرار تعريب قيادة الجيش العربي التاريخي, وكان القرار صدمه للإمبراطورية البريطانية وتدهور العلاقات الأردنية مع بريطانيا وأمريكا وحلفائهما...
محطات وحقائق في حياته
شارك غلوب باشا كضابط بسلاح الهندسة البريطاني بالحرب على ألمانيا عام 1917 ميلاديًا، لقبه البدو «أبو حنيك» بسبب إصابته بشظية ألمانية في الحرب العالمية الأولى فحطمت فكه السفلي، وخلفت تشويهاً في فكه فأطلق عليه هذا اللقب الذي كان محبباً لديه ولدى العربان، كما لقب في أحيان أخرى من أهل البادية بـ»راعي البويضة» نسبة إلى الناقة البيضاء التي كان يتجول بها بين العشائر والقبائل، خدم في فرنسا أثناء الحرب العالمية الأولى ثم تم نقله إلى العراق عام 1920 ميلاديًا، وكانت بداية مغامراته وجاسوسيته من العراق ضمن الجيش البريطاني الذي احتل العراق، تعلم «أبو حنيك» اللغة العربية أثناء وجوده فيها وعمل كجاسوس بريطاني بامتياز ووضع خرائط للصحراء، وفي العراق كان ضابط مهمات خاصة في استخبارات سلاح الجو الملكي البريطاني، ومن عام 1927 ميلاديًا إلى عام 1930 ميلادياً عمل بالمنطقة الجنوبية للعراق والمحاذية للحدود السعودية.
ومن ثم أرسلته المخابرات البريطانية إلى إمارة شرق الأردن خلفاً لمواطنها جلوب فريدريك جيرارد بييك في قيادة الجيش الأردني، تابع ما بدأه فريدريك في بناء الجيش الأردني، بقي في منصب قيادة الجيش الأردني حتى عام 1956 ميلاديًا حيث أعفاه الملك حسين من مهامه بعد صدامات عدة معه وامتناعه عن حركة الضباط الأحرار الأردنيين، وكان هذا القرار بمنزلة صدمة للإمبراطورية البريطانية وأدى إلى تدهور العلاقات الأردنية مع بريطانيا وأمريكا وحلفائهما.
أبو حنيك رئيساً للأركان
في عام 1948 نصب الإنجليز «أبو حنيك» على رأس الفيلق العربي الأردني الذي أنشؤوه في الإمارة الأردنية وشارك هذا الفيلق في حرب عام 1948 ميلادياً واتهم وقتها أنه سبب هزيمة الجيوش العربية في هذه الحرب.
والشيء بالشيء يُذكر بلغ حب غلوب باشا للعرب بأن أخذ عاداتهم وتقاليدهم مثل حماية المستجير، وأسمى ابنه باسم عربي وتزوج من امرأة فلسطينية الجنسية وقد خلّد الشعر النبطي غلوب باشا في قصائد منها:
حلفت ما قلتها يا «غلوب»
وحياة خلاّق الأنفاسي
ألبس زبونك وأجرّ الثوب
واحطّ تاجك على راسي
وكذلك في الأبيات التالية التي تشير إلى ترك البدو حياة البداوة، ومشكلات الغزوات بين القبائل:
يا راكب اللي ما هي دنّا
منوة غريبٍ يدنيها
عن دور «أبو حنيك» هوّنا
وعن المغازي وطاريها
كان غلوب باشا طوال حياته العسكرية يعمل على تنفيذ المخططات البريطانية بخصوص العرب بما امتلك من حنكة ودهاء ولصوصية، وبعد تسريحه من الجيش الأردني، ومغادرته لعمان، عكف على القراءة والكتابة وأمضى بقية حياته في مزرعته في بريطانيا.
قصته مع المشير
طلب غلوب باشا من الجيش العربي الموجود في فلسطين إيقاف القتال لوجود هدنة، وكان قائد الجيش آنذاك المرحوم المشير/ حابس المجالي الذي رد عليه بالشعر مما يعني من خلال الشعر وعي هذا القائد لأبعاد مطلب الباشا..!! فقال:
ما أريد أنا هدنةً يا كلوب
خل البواريد رجاده
بيوم قيظ بحر الشوب
والنار بالجو وقاده
خلهم يحسبوا لنا محسوب
إنا على الموت وراده
صهيون اترك لنا المغصوب
وأبعد عن القدس وبلاده
النصر من الله لنا مكتوب
والخوف ما هو لنا عاده
كتاباته ومؤلفاته
أمضى بقية حياته في كتابة المقالات والتأليف، التي كانت معظمها حول الشرق الأوسط وتجربته مع العرب، ألف عشرين كتاباً في التاريخ الإسلامي والشؤون العربية، وألقى مئات المحاضرات في بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية عن العرب وتاريخهم والصراع العربي -الإسرائيلي في الشرق الأوسط، وعن حياة البدو وتاريخهم وعمله في الصحافة، ويعترف من خلال كتاباته أنه كسب عدم رضاء الطرفين «المؤيد له والمخالف له».
«أبو حنيك» كتاباته تتضمن حال وأحوال «العربان/ البدو» في تلك الفترة التي عايشهم فيها، واستعرض في مذكراته الشخصية حياته في البادية وطبيعة العلاقات العربية الإنجليزية وإعجابه بشخصيات عربية حكمَت خلال تلك الحقبة.
ومن مؤلفاته أيضاً كتاب «مذكرات غلوب باشا.. حياتي في المشرق العربي» الذي يعتز فيه بدور الجيش الأردني في حرب 1948م ووصف دوره بأنه حقق أهدافاً تفوق إمكاناته المحدودة.
كان يرى من خلال كتبة أن الاحتلال البريطاني للمنطقة العربية قدم لها خدمات جليلة وأن القوات البريطانية المحتلة أرست العدالة في الدول التي احتلتها، وحافظت على أمنها.
ووصف «أبو حنيك» في كتاباته أيضاً حياة البدوي أنها تتسم بالغطرسة والوحشية والطمع والعنف، خاصة نزوعها إلى السلوك المتعالي الذي لا يطاق نحو غير البدوي لكنه يتعاطف أيضاً مع هذا البدوي، ويؤكد ضرورة النظر إلى البدوي بصورة متوازنة، وأن «البدوي» يمتلك الكرم والنبل والرومانسية في حياته.
يقال إن الشماغ الأحمر المرقط بالأبيض أدخله على العرب غلوب باشا (أبو حنيك) بعد أن عانت المصانع البريطانية التي كانت تنتج هذا النوع من أزمة مالية بسبب قلة الطلب على هذه الأغطية عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، فجاء جلوب باشا وعممه على الجيش الأردني، ولبسه هو أيضًا، ثم انتشر بين عرب الجزيرة.
أوسمة حصل عليها
بعد أن طرد من الأردن عام 1956، تقلد وسام رتبة الإمبراطورية البريطانية «رتبة فائقة الامتياز»، إلا إنه لم يعرف أنه تقلد أي وسام أردني، أمضى جلوب بقية حياته في كتابة الكتب والمقالات، التي كانت معظمها حول الشرق الأوسط وتجربته مع العرب، تلقى عام 1925 وسام القادة الفرسان.
المؤرخون العرب يرون أن تاريخ أبو حنيك غير مشرف في مقاومة الوحدة العربية ومهاجمة الإسلام والعروبة، وتشيعه لليهود والصهيونية تشيعًا كاملاً لا شك فيه، وكانت هذه الناحية خفية على الجميع لأنه كان يتظاهر بحب العرب حبًا شخصيًا وقويًا جعل الكثيرين ينخدعون به.
نهاية المسيرة
قبل وفاته بسنوات نقل كل الأسرار التي تحت إمرته إلى الأماكن الخاصة سواء في وزارة الحرب أو في جامعة أوكسفورد أو اندين افس، وهو ما فعله ديسكون وفلبي ولورانس وغيرهم المئات من قبل ولا يمكن الاطلاع عليها إلا للمختصين، ولا يغرنك ما تفرج عنه بريطانيا كل ثلاثين أو خمسين سنة من وثائق، هذه ليست من الأسرار بل تاريخ مثل الكتاب الذي أخرجه لوريمر بعد مرور خمسين سنة من صدوره للخاصة أفرج عنه، توفي جلوب باشا في إنجلترا في 17 آذار عام 1986، شارك الجيش الأردني في حفل تأبينه بعد وفاته.
** **
Sabbar2013@hotmail.com