د. جمال الراوي
قصصُ الذّبحة الصدرية كثيرة، لا يمر وقتٌ قصير أو طويل؛ حتى نسمع غرائبها وعجائبها، وأورد هنا، بعضاً منها، فقد كان أحد الأطباء يجاورني في السكن، يعمل رئيساً لقسم التخدير والعناية المشددّة في أحد المستشفيات، وكنّا نترافق سويّة إلى المسجد، وكان يتمتّع بصحة جيدة، ولا يعاني من أيّ مرض، ويشكو لي- دائماً- من جهاز النداء الآلي «البليب» الذي يحمله في جيبه على الدوام، ويضعه بجانب السرير أثناء نومه، ويقول بأنه جهاز خبيث ومرعب، لأنه ما إن يرن حتى تبدأ كلّ أعضاء الجسم بالانتفاض المفاجئ، وعليه أن يقوم على عجلٍ ليردّ على النداء، والانتقال من وضعية النوم والاسترخاء الكامل، إلى وضعية الاستنفار الكامل، خلال ثانية واحدة، وهذا ما يشكِّل عبئاً كبيراً على أعضاء الجسم، التي عليها أن تنتقل من مرحلة إلى مرحلة خلال فترة وجيزة جداً، لأنه قد يكون هناك مريض بحاجة لإسعاف سريع وعاجل، وخصوصاً أن اختصاصه من الاختصاصات التي تتطلب الاستنفار الدائم في الذهن والبدن، وكان يقول لي بأنّه يحسّ رنّات الجهاز تضرب في جوف صدره لتصل إلى قلبه، وأضاف لي: (لا أدري! كم من المدّة سيتحمّل القلب هذه الصدمات المتواصلة بسبب هذا الجهاز!).
غادرت المستشفى وانتقلت إلى آخر، ولم تمضِ، مدة طويلة، حتى سمعت بأن جاري السابق شكا من آلام شديدة في صدره، فركب سيارته متوجهاً للمستشفى، فشعر بعدم قدرته على المتابعة، فعاد أدراجه، وطرق الباب على أحد زملائه، وطلب منه مرافقته، وفي منتصف الطريق، دخل في غيبوبة، فاستطاع مرافقه تدارك الأمر، وتسلّم المقود عنه، ثم قاد السيارة عنه بعد أن استبدل مكانه، وفي قسم الطوارئ، الذي كان يعالج فيه مرضى الذبحات الصدريّة، رقد زميلي على نفس السرير، واستطاع المسعفون أن يعيدوا الضربات لقلبه من جديد، ثم وضعوه في قسم العناية المشدّدة، تحت التنفس الاصطناعي، وهو القسم الذي كان يُشرف فيه على المرضى، وبقي فيه أكثر من شهرين، تعطّلت كليتاه وبقيّة أعضاء جسمه، ثم شافاه الله، وعاد إلى بلده مُقعداً على كرسي متحرك، فمات -رحمه الله- بعد سنة.
أحد الزّملاء الأطباء، جاء ليحضر مؤتمراً طبيّاً من مدينة أخرى، فاستأجر غرفة في أحد الفنادق، فنام ليلته عله يستيقظ في الصباح ليذهب للمؤتمر، لكنّه استيقظ عند الثالثة صباحاً على آلام شديدة في الصدر، فشعر بالذعر والخوف، فنزل إلى قسم الاستقبال، فوجد الموظف، وأخبره بأنه يعاني من آلامٍ في صدره، وعليه أن يذهب حالاً إلى المستشفى، فألح عليه موظف الاستقبال أن يرسل معه أحداً، لكنّه رفض، فركب سيارته ليجدوه في الصباح ميتاً داخل سيارته، وهي واقفة في قارعة الطريق.
كنا نسكن في السكن الداخلي لأحد المستشفيات، نقوم بالمشي، بعد صلاة العشاء، في حديقة السكن، على شكل مجموعات، وكان أحد الزملاء الأطباء في مجموعة أخرى، نتبادل معه ومعهم السلام، وقد انقطع عنهم لمدة يومين، ويبدو أن زملاءه لم يعبؤوا بانقطاعه، لأن لكل واحدٍ ظروفه، وكان هذا الطبيب يسكن وحده، لأن زوجته وأولاده في بلدهم، جاء مهاجراً يبحث عن رزق عياله ... فبدأت رائحة كريهة تنبعث من شقته، فتنبه الجيران، فجاء المسؤولون عن السكن، فوجدوه مُسجى في فراشه، وقد انتفخت بطنه، وكان التشخيص «جلطة قلبية» مفاجئة، أثناء نومه، ويبدو أنه لم يستطع الاستغاثة، فعاجله الموت.
لا أحد يعرف إلا الله لماذا تأتي هذه الذبحات الصدرية بصورة مفاجئة، ودون إنذار، خاصة عند النوم، وأنا أعرف شاباً لم يتجاوز الثلاثين من عمره، توفيت أمه وهو صغير، وعاش يتيم الأم، مع أن والده لم يبخل عليه بالعناية والاهتمام، وكان الوقت صيفاً، فتناول غداءه في بيت والده، ثم نام للقيلولة، فأفاق مذعوراً، والعرق يتصبب من وجهه، وهو يشكو من آلام فظيعة في الصدر، فأسعفوه حالاً، فأركبوه في السيارة، ليموت في الطريق، قبل أن يصلوا به المستشفى، مع أن الشاب كان في عنفوان الشباب، ولم يكن يشكو -من قبل- من أي مرضٍ، وربما كان يُعاني من ضغوطات داخلية، لا يعلمها إلاّ الله!
يسمونها الذبحة الصدرية أو الجلطة القلبية أو الاحتشاء القلبي، بينما يقصدون بها معنى واحداً؛ أي: الانسداد المُفاجئ في أحد شرياني القلب الأيمن أو الأيسر أو أحد فروعهما، وتتفاوت الأعراض وحدتها بحسب أهمية الشريان المسدود، وقد تؤدي إلى الوفاة!... وقد تعود الحياة إلى المنطقة المحرومة من الدم، من جديد، بسبب الانسداد، لكن العضلة القلبية لا تعمل كما في السابق.
تتضيق الشرايين عموماً، وشرايين القلب خصوصاً مع تقدّم العمر، بسبب حصول ترسبات الكوليسترول على جدرانها، فيصبح الانسداد الكامل وارداً في أي لحظة. والمثير في الأمر هو الانسداد المفاجئ، ودون أي إنذار وعوارض سابقة، وقد يكون الانسداد نتيجة حالة وراثية مع تشوّه في شرايين القلب، إلا أنها، في عصرنا، تكون في معظم الأحيان بسبب الضغوط النفسية التي يتعرّض لها الكثير منا بسبب مشاكل العمل والأسرة وغيرها، وقِصص الذبحة الصدرية كثيرة، تلخّص أحد أساليب الموت وأسلحته التي يتفنن فيها، وقد عجز البشر كل البشر أن يوقفوا هذه الوسائل، رغم اختراعاتهم وتقدّمهم وتفوّقهم على صعوبات الحياة الكثيرة ومشاقِّها، وسيبقون رهن هذه الوسائل مقهورين ومغلوبين؛ مهما بذلوا من جهدٍ وبحث.