الحمد لله رب العالمين القائل في محكم التنزيل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}، والصلاة والسلام على رسولنا وحبيبنا محمد القائل: (لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها).
تلقيت صباح الجمعة 1-11-1442هـ ببالغ الحزن والألم نبأ وفاة والدي وشيخي معالي الشيخ/ ناصر بن عبدالعزيز أبو حبيب الشثري، بعد معاناة مع المرض، وكان رحمه الله صابراً محتسباً، رحمك الله يا أبا خالد.
ولد معالي الشيخ ناصر -رحمه الله- في الرين عام 1349هـ، ونشأ فيها، وقرأ القرآن، وختمه على يد الشيخ/ عبدالرحمن بن عبدالله الجبرين، وهو في العاشرة من عمره، وأتم حفظه وهو ابن أربعة عشر عاماً، ويعد والده الشيخ عبدالعزيز أول أستاذ له، حيث تلقى على يده عدداً من العلوم في الحديث، والفقه، والتوحيد، والنحو، والفرائض وفي عام 1379هـ التحق بالمعهد العلمي بالرياض وفي عام 1384هـ تم تعيينه في الإرشاد والتوجيه الديني بالحرس الوطني وتدرج في العمل حتى تم تعيينه مديراً عاماً للشؤون الدينية بالحرس الوطني.
وكان لوالده الشيخ عبدالعزيز -رحمه الله- علاقات متميزة مع ولاة الأمر والأمراء كذلك كان لابنه الشيخ ناصر علاقات مع الملوك والأمراء، فعمل مستشاراً للملوك من عهد الملك خالد إلى عهد الملك سلمان، وكانت علاقته تقوم على المحبة والنصح -رحمه الله-.
وتعود علاقتي بمعالي الوالد الشيخ ناصر -رحمه الله- إلى ما قبل ثلاثين عاماً فقد كنت أزوره في منزله العامر، وتوطدت علاقتي به بعد تعييني رئيساً لجهاز الإرشاد والتوجيه بالحرس الوطني الذي أمضيت فيه عشرين عاماً، وقد كان الشيخ ناصر أول من تولى إدارة الشؤون الدينية بالحرس، والتي سميت فيما بعد بجهاز الإرشاد والتوجيه، ولقد بادرت بزيارته بعد التعيين عام 1415هـ لأسلّم عليه، وأستفيد من توجيهاته ونصحه، لما له من خبرة طويلة في العمل الدعوي، وتجربة خاصة في الحرس الوطني، فاستقبلني أحسن استقبال، وهنأني بالمنصب، ودعا لي وأوصاني بالصدق والإخلاص والصبر، واستمرت الزيارات والتواصل بيني وبين معاليه بشكل مستمر، فإذا دخلت عليه فرح بي وأكرمني، وكان أول ما يسألني عن أخبار الجهاز وما لدينا من جديد، وكنت أخبره بأعمالنا وجهودنا وأزوده بما صدر عن الجهاز من الكتب والرسائل، وأطلعه على مشروعاتنا المستقبلية، وأستشيره في بعض المسائل الإدارية والدعوية، وكنت أجد منه كل الحب والتقدير والاحترام وما توقفت زياراتي لمعاليه إلا بعد هذا الوباء الذي انتشر بين الناس، وغيّر كثيراً من أمور حياتهم، وحد من علاقتهم، وبعد أن خفّت الجائحة كنت أزوره لأطمئن على صحته، وأسعد بحديثه الأبوي، وكان -رحمه الله- يفرح عندما أزوره، ويظهر سعادة وسروراً، ويتبسط معي، بل أحياناً يمازحني ممازحة الأب الرحيم لابنه المحب.. وإن تأخرت عن زيارته عاتبني عتاب الأب، وعندما اشتد به المرض كنت أسأل عنه أحد أبنائه الكرام البررة لأطمئن على صحة والدي، وآخر مرة سألت عنه قبل وفاته بيومين، سألت عنه ابنه الزميل والصديق دكتور محمد.
والحديث عن الشيخ ناصر يطول ولا ينتهي، ولعلي أختصره في عدد من النقاط:
1 - الكرم: إذا ذكر الكرم ذكر الشيخ ناصر الشثري -رحمه الله- فأبو خالد كريم سخيّ جواد، بابه كما قلبه مفتوح، ومجلسه عامر بالضيوف في كل وقت، وإذا رآك فلن يتركك إلا بموعد على غداء أو عشاء، وإذا أجبت دعوته وحضرت فستلقى عنده عدداً من الأحبة، سعوديين وغير سعوديين من العلماء والفضلاء والوجهاء، بل والعامة، تجمعهم محبة الشيخ -رحمه الله-: قل أن يأكل الشيخ طعامه وحده دون حضور ضيوف، وهذا دليل كرمه وجوده.
2 - التواضع: يعد الشيخ ناصر من العلماء المتميزين له مكانته وقيمته عند الولاة والعلماء، كما أنه ذو حظوة ومنصب كبير منذ نعومة أظفاره، فهو مستشار عند عدد من الملوك، رحم الله الأموات، وحفظ الأحياء، ومقرب إليهم، ومع هذه الميزات والمكانة إلا أن الشيخ يتميز بقدر كبير من التواضع مع الجميع صغاراً وكباراً أغنياء وفقراء، يتواضع لهم، ويتطلف معهم، ويستقبلهم بوجه طلق وكلمة لينة وابتسامة صادقة.
3 - حب الخير للناس: من المشتهر عند القاصي والداني أن الشيخ ناصر -رحمه الله- يحرص على نفع الناس ومساعدتهم، والسعي في تسهيل أمورهم وخدمتهم، فهو لا يتردد في تقديم العون والمساعدة لكل من يقصده بالشفاعة والاتصال، وغير ذلك من وسائل الدعم والمساعدة، وهو -رحمه الله- ينطلق في هذا من حديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- عندما سأله أحد الصحابة: أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال: أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم تطرد عنه جوعاً أو تقضي عنه ديناً، ولأن أمشي في حاجة أخ لي في الله حتى أثبتها له أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً -يعني مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم- فنفع الناس والسعي في مساعدتهم وخدمتهم من الصفات الملازمة لشيخنا -رحمه الله-.
4 - طيبة القلب وسلامة اللسان: مما يتصف به معالي الشيخ أنه سليم القلب طاهر النفس عف اللسان، ولا أذكر أنني سمعته يوماً يتحدث عن أحد من الناس إلا بخير، ولم أسمعه يذكر أحداً بسوء، فلا مجال في مجلسه لغيبة أو نميمة أو لغو أو إساءة لأحد، وكان دائماً يذكرنا بقول أحد التابعين: لو اغتبت أحداً لاغتبت أمي فقيل له لماذا؟ فقال: حتى تكون حسناتي من نصيب أمي.
لا يدار في مجلسه إلا حديث طيب توجيه أو تذكير أو وعظ وهو كثير الثناء على ولاة الأمر، فإذا ذكروا ذكر محاسنهم وأعمالهم وجهودهم، وختم المجلس بالدعاء له، وهكذا هي مجالس الأخيار والصالحين من علماء السلف، كلها خير ونفع وفائدة، والشيخ بطبيعته قليل الكلام، فإذا تحدث عطر المكان ونفع الحضور، وجاء بكل مفيد وجديد.
5 - محبة الناس له: الشيخ ناصر يحبه كل من عرفه وتعامل منه وقل أن تجد شخصاً يجمع الناس على محبته والثناء عليه، وأحسب أن الشيخ يتميز بصفات كثيرة دفعت الناس إلى أن يحملوا له كل معاني الحب والتقدير والإجلال، فالشيخ لا يؤذي أحداً بقول أو فعل، وهو كما أشرت، قليل الكلام، وإذا تحدث قال خيراً (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)، وهكذا هو الشيخ ناصر وهو يعامل الناس بالاحترام والتقدير، ولهذا أجمع الناس على محبته، وفي مجلسه يجتمع الأمراء والعلماء والسفراء والدعاة والوجهاء والأدباء والمثقفون وغيرهم. ومن مظاهر محبة الناس له وتقديره لمعاليه ما شاهدناه قبل أيام قليلة من زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- لشيخنا في منزله، سواء للسلام أو المعايدة أو الاطمئنان على صحته، وهكذا فعل سمو ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان -رعاه الله- فقد شاهدناه وهو يزور معالي الشيخ في منزله للاطمئنان على صحته، وهذا دليل على ما يربط ولاة أمرنا وعلمائنا من روابط متينة وعلاقات قوية وحب وتقدير، كما أنه يدل على ما يحظى به الشيخ من مكانة رفيعة ومنزلة عالية لدى ولاة الأمر في بلادنا حرسها الله ووفقهم وأسعدهم وبارك لهم في أعمارهم وأعمالهم.
6 - السماحة: من صفات شيخنا -رحمه الله- أنه سهل سمح.. والسماحة هي طيب في النفس وانشراح في الصدر ولين في الجانب عن سهولة ويسر، وهي بشاشة في الوجه وطلاقة في المحيا، وقد ورد في الحديث: (من كان سهلاً ليناً هيناً حرمه الله على النار..) وقال رسولنا -صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى..) إن ديننا هو دين السماحة. وقد قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- أحب الدين أي خصال الدين، من كان منهما سمحاً أي سهلاً فهو أحب إلى الله، والشيخ -رحمه الله- سمح في تعامله مع الناس، أذكر أنني قد دعوت بعض الإخوة والأصدقاء لمنزلي لتناول طعام العشاء، ومعهم بعض أبناء الشيخ وأقاربه، ولأنها دعوة عابرة فإنني لم أدع الشيخ معهم، إلا أنني فوجئت به يحضر مع بعض أبنائه، وبقدر فرحي وسروري وسعادتي بتشريفه منزلي، إلا أنني شعرت بألم، فلو كنت أعلم بحضوره لكانت المناسبة والعشاء على مستوى الشيخ، وقد اعتذرت للشيخ وطلبت منه موعداً خاصاً به فرفض، وقال: هذه المناسبة أحب إلي، ومتى ما كان عندك مثلها فإنه يسرني الحضور والمشاركة، هذه هي أخلاق الكبار، والشيخ ناصر يمثل السماحة والتواضع في أجمل صورها.
هذه بعض أخلاق الشيخ صفاته، ولا أحسب المقام يسمح بالإطالة، ولكنني أنتهز هذه الفرصة فأتوجه إلى أبناء الشيخ الأفاضل، ومنهم العلماء والمثقفون والمؤلفون أن يبادروا بتدوين سيرة والدهم الجليل، فهي سيرة عطرة مليئة بالتجارب المفيدة والمواقف الجميلة والمعلومات الجديدة والذكريات النافعة والحكم والملح والأخبار، فهي سيرة حافلة بكل ما هو نافع ومفيد، وأبناؤه وأحفاده والجيل الجديد بحاجة ماسة إلى قراءة سير هؤلاء الكبار.. أملي أن يجد هذا النداء والرجاء قبولاً من أبنائه البررة. رحم الله شيخنا وغفر له وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة وجمعنا وإياه ووالدينا ومن يحب ومن نحب في أعلى الجنان.