اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
وفي هذا الزمن الذي فقدت فيه قضية العرب الأولى بصمتها واختلت هويتها بعد الاستفراد بها من قبل الأعداء بسبب الشقاق والخلاف بين أصحاب القضية، وما تعانيه الأمة العربية من الأوجاع ورياح التيه والضياع، لم يكن مستغرباً نتيجة لهذه العوامل أن يكون التدخل السافر والضغط المباشر من قبل أمريكا وبعض القوى الغربية من أجل رضوخ العرب لمطالب الكيان الإسرائيلي، حيث نحت الأمور منحى استعمارياً جديداً ظهرت معالمه من خلال نظام العولمة وسياسة القطب الواحد وتبني نظرية الشرق الأوسط الكبير والفوضى الخلاقة بهدف رسم خريطة جديدة للوطن العربي وتحويل الدول العربية إلى دول مسلوبة الإرادة ناقصة السيادة على نحو يخدم الكيان الإسرائيلي الذي يعد هو المستفيد الأول من هذا المشروع الظالم الذي يشارك في تنفيذه دول مجاورة ذات طبائع انتهازية ومطامع جيوسياسية.
ومشروع الشرق الأوسط الكبير يعد مشروعاً استعمارياً يراد منه إجراء صياغة جديدة للمنطقة العربية على مختلف المستويات الجغرافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والحضارية مع قولبة ذلك ضمن قالب أمني وتنموي يصب لمصلحة أمريكا وإسرائيل على حساب استهداف دول المنطقة في عقيدتها وثقافتها وثرواتها.
ومن أهداف هذا المشروع القضاء على مفهوم الوحدة العربية والانتماءات الدينية والثقافية والقومية بالنسبة للعرب وإحلال هذا المصطلح الاستعماري بديلاً للوطن العربي والأمة العربية التي يراد تحت ظل هذا المشروع أن تكون كيانات صغيرة ودويلات فاشلة، يتعذر عليها إقامة أي كيان عربي جامع والاستعاضة عن ذلك بمسميات إقليمية ومصطلحات استعمارية.
والواقع أن مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد ما هو إلا امتداد لطموح أمريكا نحو تحقيق أهدافها الاستعمارية ومصالحها الوطنية بالشكل الذي يضمن لها تنفيذ مخططاتها في المنطقة من أجل حل أزماتها الاقتصادية ونجاحها في تحدي النظم المعادية لها وفي مقدمتها روسيا والصين، والانفراد بقيادة العالم.
وقد تم استهلال هذا المشروع بغزو العراق بعد أفغانستان فيما يعرف بالحرب الاستباقية بحجة وجود أسلحة دمار شامل لديه واستخدام هذه الفرية ذريعة لتدمير هذا البلد بشن حرب عدوانية ضده، واصفة إياها بأنها استباقية لتبريرها، وقد نجم عن هذا العدوان القضاء على القوات العسكرية العراقية والمنجزات الوطنية والتراث الحضاري لبلاد الرافدين، علاوة على استغلال الموقف من قبل إيران والمليشيات الطائفية والعصابات الإرهابية لنهب الثروات وتعريض الشعب للإبادة وجلب الإرهاب إلى العراق وزرع الفتن الطائفية والعرقية فيه وتسليمه لإيران.
وما العاصفة التي عصفت ببعض الدول العربية فيما يعرف بالربيع العربي، وما نتج عنها من نتائج وتداعى لها من تداعيات إلا استجابة لما تدعو إليه نظرية الفوضى الهدامة التي اقترن اسمها باسم نظرية مشروع الشرق الأوسط الكبير وقد أثبتت الوثائق المسربة والمصادر المقربة أن إدارة أوباما لها دور كبير في التحريض على هذه الأحداث الدامية، كما ظهر في الوثيقة الأمريكية التي أطلق عليها البعض وثيقة الدم.
ولم تكتف أمريكا لإنجاز مشروعها بسياسة الإقناع والاعتماد على ذاتها والقوى الغربية المساندة لها، بل سمحت لألد أعداء الأمة من أصحاب الثارات القديمة والنفوس اللئيمة بالاعتداء المباشر وغير المباشر على بعض الدول العربية واحتلال أوطانها والتدخل في شأنها كما فعلت ذلك دول الجوار الانتهازية المتمثلة في إسرائيل وإيران وتركيا التي استغلت هذا المشروع لزيادة نفوذها وتعاظم دورها في الوطن العربي.
ورغم أن المشروع أمريكي التخطيط والتنفيذ إلا أن الكيان الإسرائيلي يحاول من خلاله الاندماج في المنطقة العربية ورسم خريطة جديدة لها، تضمن له الانتماء إليها عبر تجزئة الوطن العربي وتمزيق الأمة العربية وإعادة تشكيلها من جديد على هيئة أقليات مذهبية وفئات اثنية وأديان مختلفة لمساعدته على إثبات وجوده على الأرض والاستيلاء على ثرواتها والتحكم في صياغة حاضرها ومستقبلها. ومشروع إسرائيل التوسعي يلتقي مع المشروع الأمريكي، متخذاً أشكالاً تتلاءم مع طبيعة العصر وتطوره المستقبلي، إذ تدرج من توسع على الأرض، تهدف إسرائيل من خلاله إلى تأمين مجال حيوي جغرافي ثم تحول إلى توسع سياسي يهدف إلى فرض الأمر الواقع وإضفاء الشرعية عليه عن طريق السيطرة على فلسطين ومحيطها والتحكم في أجوائها ومياهها ومنافذها الاستراتيجية، كما واكب ذلك تطور اقتصادي يهدف إلى تمكين الدولة اليهودية من تحقيق مكانة متقدمة في الإنتاج والتصنيع بصورة تتيح لها امتلاك ناصية التنمية الاقتصادية وبسط السيطرة على الأسواق المجاورة تمهيداً لبلوغ مشروعها الذي تتطلع إلى بلوغه، وهو قيادة دول المنطقة وإقامة دولة اليهود الكبرى.
والدولة التي قامت على اكتاف قوى الاستعمار، لا غنى لها عن السير على الطريق الذي يدنيها من غايتها ويضمن لها مزيداً من الهيمنة والتوسع، وذلك بالبقاء تحت مظلة الاستعمار طوعاً واختياراً لتجعل منه خادماً لها تُسيّره حسب إرادتها وتسخره من أجل تحقيق أطماعها مع الموازنة والمزاوجة بين دور الوكالة ودور الشراكة، تبعاً لما تفرضه المصلحة المشتركة والمنفعة المتبادلة بينها وبين القوى الراعية لها.
واستمرت الدولة العبرية في مسيرتها نحو ما تنتظره وتشارك في تنفيذه من مشروع الشرق الأوسط الجديد بجوانبه الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، مستفيدة من أحداث الزمان، ومتكيفة مع ظروف المكان في كنف القوة الكبرى التي تعهدت بالمحافظة على أمنها وتفوقها العسكري وتقديم الدعم السياسي لها في المحافل الدولية، الأمر الذي فسح المجال لهذا الكيان العنصري المحتل ليمضي قدماً في التوسع والاحتلال والاستيطان وإقامة المستعمرات وبناء جدار العزل العنصري البغيض مع المحاولات الجادة لتهويد القدس وبلوغ أهدافه القومية وغايته النهائية على حساب الشعب الفلسطيني والأمة العربية، دون أن يكترث بنتائج المؤتمرات السياسية، وما يتم الوصول إليه من اتفاقات ثنائية، وتدعو إليه مبادرة السلام العربية.