عندما تعاونت مع نادي الطائف الأدبي-أثناء عملي بكلية المعلمين،ثم كلية الآداب-عرفته، وكان يجلس خلف مكتبه أراه يحمل حكمة السنين في شعرات بيضاء تزين لحيته، وكلام قليل يصدر عن رغبة في الإنصات والفهم. وعند الحديث حول الأمور المالية والإدارية بالنادي، تجده محيطا بدقائق الأمور، فالرجل إداري محنك تسنم إدارة التربية والتعليم البنات بالطائف. وهذه الدقة لا تقل عنها دقته في الإحاطة بالشأن الثقافي السعودي والعربي.
إنه عقل يفكر، وقلب يشعرن وذات تعبر، هذا هو الأستاذ علي خضران القرني أحد مثقفي المملكة وأدبائها، وشيخ الصحفيين بالطائف، الرجل الذي كتب القصة والشعر والخطرات النقدية والمقالة الصحفية، ونشرت له الصحف والمجلات السعودية.
أتصور أن من كتبوا عن الرجل اهتموا بكونه كاتباً صحفياً مشهوداً له، وإدارياً لا يُشق له غبار، وأهملوا كونه مبدعا، ويبدو لي أيضاً أنه قد مارس الإبداع في ريعان شبابه، وما تلاه من سنوات -قد تكون قليلة-، ثم استقر به المقام في عالم الصحافة والإدارة.
سألت نفسي لِمَ لا ننظر في أشعار الرجل، وبخاصة أنه ينتمي إلى بيئة الجنوب المشهود لها بجمال طبيعتها (بلاد بلقرن)، فوجدت أشعاره قد كستها حلةٌ رومانسية نابعة من تلك الطبيعة الجميلة، التي لم تغِب عنه؛فقدم لنا مختارات شعرية تحت عنوان (أبها في مرآة الشعر المعاصر).هذه المدينة الجميلة التي تسكن وجدان أبنائها؛ الأمر الذي يجعلها عصية على النسيان وإن ابتعدوا عنها،و هذا ما عبر عنه علي خضران عندما أَنْسَنَ المكان، وخاطب أبها في قوله:
كيف أنساكِ أبها وأنتِ
صورةٌ في خيالي وحسّى
أنتِ أنشودةُ الحسن أنتِ
سلوتي في حضوري وأُنسى,
لقد ملكت أبها حواس الرجل، واحتفظ لها بصور جمالية متعددة فيما يمكن أن نسميَه»مجمع حواس الجمال»: سمعيةً وبصريةً وشمية في قوله:
كم تغنت على رُباكِ طيوفٌ
ساجعاتٌ بكل لحنٍ وفن.
والخُزامى تمايلت فيكِ حُسنا
والمها في دلالٍ تغني.
ولقد مزج علي خضران- في لفتة رومانسية- بين طبيعة أبها الجبلية والحب الذي ينضح بالأم،في صورة تذكرنا بألم ألفريد دي موسيه وهو يعاني الألم في حبه للكاتبة جورج صاند، إلاّ أن الصورة عند خضران تمتد من التمني إلى التخيل والاستحضار، عندما يخاطب المحبوبة ويناديها في قوله:
يا مُنى الروح ويا ظبي الجبل
قد براني الهجرُ وازداد الألم.
كم تمنيت لقاءً شافيا
في روابي السفح والطود الأشم.
ويمتد المكان عند علي خضران ليتجاوز دائرة أبها إلى دائرة المملكة الكبيرة في انطلاقٍ رومانسيٍ من الخاص إلى العام، عندما يخاطب الوطن قائلاً:
أنت هواي وحبي
وسلوتي في بعادي.
أنت العزاء لقلبي
وبسمتي ومرادي.
وأنت نبراس مجدي
مفاخري وتلادي.
ثم تتسع الدائرة عنده لتشمل الهم العربي الكبير، وهو قضية فلسطين التي تناولها في أكثر من نص منها: إلى القدس – ابن الشهيد - نشيد العودة - أمتي... . يقول في نص(إلى القدس) متمنياً وحدة الصف العربي في مواجهة الصهيونية:
سنمضي على الدرب رغم الردى
ورغم الأعادي ووقد اللظى.
سنمضي إلى القدس في وحدة
يعم صداها جميع الورى.
و تبدو رومانسية علي خضران في شعوره بالاغتراب وهو يعاني النكران وخيانة الآخرين في صورة من صور الأرق الرومانسي التي تتشح بالاغتراب والعزلة، وعدم القدرة على الرؤية الصائبة عندما يقول:
تاهت خطاي ولم أعد أتبصرُ
و مضى شراعي تائها يتعثر.
فشكوتُ ما ألقى وما قد نابني
فأجابني دهري بما يتعذر.
يا أيها الطيف الذي قد زارني
حالي بما دس العدا يتكدر.
هذا خليل قد تولى معرضا
ومضى قريب في الخفا يتنكر.
ونرى الصورة الاغترابية نفسها، ولكن في إطار من المفارقة، فيقول:
أحاول رغم حزني أن أغني
فتلثمني الدموع فلا أغني.
طواني الدهر قد كانت طيوفي
تغني باللحون بكل فن.
لقد أبدع خضران في الصورة الشعرية(فتلثمني الدموع) هذه الصورة الجديدة التي أوحت بحميمية الدموع ومصاحبته له وكأنها تعرفه معرفة وثيقة لدرجة أنها تقبله.إنها صورة معبرة عن شخصية خضران القوية في مواجهة الأحزان، كما أنها توحي بطول أمد أزمة الرجل لدرجة منعته عن الإبداع. وتبدو هذه القوة التي أشرنا إليها في ختام هذه القصيدة عندما يرسخ لهذه القوة في مقابلة شعرية تعلي من شأنه، وتخفض الآخرين، يقول:
لكنني رغم الذي واجهته
لا ينثني عزمي ولا يتغير.
سأظل كالصقر المحلق في السما
أعلو وغيري في الثري يتحسر.
ورغم هذه الرومانسية، فالرجل لا يفقد حكمته، التي جاءت ممزوجة بالحب عندما يقول:
ما الهوى غيرُ عمرِ صدٍّ وبؤسِ
وشرودٍ من الهنا للعذاب.
وهكذا أخفى علي خضران رومانسيته في جلسته الهادئة الوقور خلف مكتبه، وأثبت لنا – نقديا – أنه عقلٌ يفكر، وقلبٌ يشعر، وذاتٌ تعبِّر.
** **
أ. د. عاطف بهجات - أستاذ النقد الأدبي الحديث بجامعة عين شمس