لا يمكن أن نعزو اعتذار الشاعر الليبي خليفة التليسي من مجاراة الغانيات حكمة أو تعقلاً، لأن وصولهن جاء بعد فوات الأوان، ولو بكّر بهن الزمان لما اعتذر لهن، ولكان أشغف بهن. والدليل استعراضه لماضيه معهن في رده على فتاة رأته عاقلاً متزناً، فتساءلت كيف كان ماضيه؟ وهل كان له مغامرات مع الحسان؟ هل خفق قلبه بالحب؟ فأجابها بأنه قد أبلى في ذلك بلاء حسنا، لكن جذوته الآن خبت. وكأنما أحس بأنها تبدي قبولاً له لو أنه خطا نحوها، فقال لها إن هذا الجمال والحنان ليس له، فلتبحث عمن يستحقه:
تناديني أستاذها في حنانِ
وفي صوتها كل دلِّ الغواني
وتمضي وفي نفسها حيرة
تسائلني عن عميق المعاني
وماذا عن الحب ما خطبه
وما يفعل الحب في العنفوان
وما كان لي في دروب الحياة
من الحب أو رائعات الحسان
وهل هبت الريح يوما فألوت
بما كان في شاهقات القنان
وهل مسني طائف من جنون
فغادرني شاردا عن كياني
وكم ليَ في العمر من غزوة
مظفَّرة بالمها والقيان
فقلت -أعابثها- قد بلوت
وقاسيت قبل حلول الأوان
وجربت من رعشة في الفؤاد
وعانيت من عقلة في اللسان
وکم جمعتْ من زهورٍ يدي
وكم عصرت من كروم الجنان
وجئتِ وقد خمدت جذوتي
ولم تبق من فضلة في الدنان
لغيري يا أخت هذا الجمال
وما فاض من نبعه من حنان
كفاني من سحره حيرة
تسائلني عن عميق المعاني
وفي قصيدة أخرى للتليسي تبدو إحدى الغانيات وكأنها محامية للرجال الكبار، فتدافع عنهم بما بُحَّتْ أصواتهم بترديده من أن المشيب حنكة وعقل، وأن الخطوب هي ما تصنع الرجال. يقول:
سمعتني أشكو الحادثات وأحنق
وأذم ما فعل المشيب المحدق
فتبسمت لطفا وساقت حكمة:
«إن المشيب رصانة وتألق»
خلف المشيب عزائم ووقائع
يمضي الزمان وذكرها لا يمحق
فعلام تنتقد الخطوب مريرة
وتذم ما فعل الزمان الأحمق
إن الخطوب خلقن منك بطولة
ورجولة وشهامة لا تلحق
عجمت يد الأحداث عودك مورقا
غضا فزالت وهو باق مورق
تاج المشيب علاك حقا إنما
روح الشباب به تضج وتخفق
وكأنه لم يصدقها فسألها متعجباً: ما الذي حدث حتى تتغير وجهة نظر الغواني؟ أم تغير ذوق النساء كعادتهن في حب التغيير؟. يقول:
فعجبت من أقوالها وسألتها
أتغير الذوق القديم المعرق؟
فتبسمت لطفا وساقت حكمة:
«ولكل عصر بدعة وتذوق»
وإن اتضح من محاوِرتِه تلك العبث، فإن واحدة أخرى قد أثبتت بالفعل؛ لا بالقول تفضيلها إياه - وهو الذي يعيش خريف العمر - على الشباب الذين حاروا في أمرها، واختلفت ردود فعلهم، وحاولوا تدمير ما بينهما من علاقة؛ منهم من يطري حسنها، وثان يستعرض شبابه وفتوته، وثالث يغريها بالمال والأسفار، والخبيث منهم استعمل التعنيف واللوم، وتعداد مساوئ العيش مع شيخ فان. يقول من قصيدة (الربيع والخريف):
أنستْ له وهي الأبية
وفضلته على البقيةْ
لم ينصب الأشراك ما
أبدى لها صفة الهوية
فأثار ذلك غيظهم
وتنافسوا في الأسبقية
وتسابقوا في صرف نظرتها بلا أدنى تقية
هذا يمجد حسنها
ويثير نخوتها العصية
ويلاطف القلب الجمو
ح بكل فيض العبقرية
فَفَتاهم يزهو بما
خلعت عليه العنترية
وغنيُّهم نثر الوعو
د بكل مأثرة سخية
ذهب وديباج وأسفار إلى الدنيا القصية
وخبيثهم ترك الوعو
د إلى الهجوم بلا روية
ما أنتِ والشيخ الذي
همدت عواصفه العتيه؟
فدعيك من دنيا الخيا
ل من القضايا الفلسفية
عيشي الحياة بصبوة
رعناء لا تدع البقية
فالعصر عصر اللهو والصبوات والكأس الروية
وحين لم تنفع وسائلهم في إبعادها عنه تنادوا بأن يتركوها وشأنها، محاولين إيجاد مسوغات وتفسيرات لتصرفها:
قالوا وقد أنست له:
الشيخ أولى بالصبية
فدعوا الطريق فليس يجدي فهمكم سبب القضية
فلعلها أخذت بسحر القول والدرر السنية
ولعلها ترجو حياة
قد خلت من كل سية
ولعلها أمنت إليه
لعلها كانت غبية
ولعلها خبرت أكا
ذيب الشباب الدنيوية
ولعلها عشقت كنو
ز الفكر تهوى الشاعرية
يدرك التليسي أن للسن أحكاماً، فلا ينظر إلى الفتاة -وإن تقربت منه؛ تعلقاً أو تملقاً- إلا كما ينظر لابنته، كما أجاب إحداهن:
من بعد ما عصف الثليج بتالدي
جاءت تناوشني وتوقد خامدي
لو قربتني السن كنت صديقها
ورفيقها وطرحت زهد الزاهد
لكن أتت والعمر في إدباره
فمنحتها مني حنان الوالد
ولا أظن هذه الفتاة إلا زادته فزعاً حين ذكرته بسنه وأبوته.
** **
- سعد عبد الله الغريبي