ساطع البيان فصيح اللسان ذو قدر ومكانة، وحلم ورزانة، وهبه الله بسطة في العلم والجسم، والمروءة والمكارم، في فقه العربيَّة نادرة علاَّم، إذا عدَّت اللغة فهو لسانها وبيانها، وإن كان الكلام في مآثر العرب قديمها قديم عصور ما قبل الإسلام، وحديثها حديث الآباء والأجداد فعنده تبيانها أعلامهم أخبارهم أشعارهم.
عَلم شامخ أستاذ كامل، فصيح اللسان تامُّ البيان، إذا انطلق بحديثه فهو لسان الفصيح يعجبك حديثه ويأخذ بلبِّك، ووددتَ أن لا يقطعه ولا ينهيه، وإذا استرسل عن عادات العرب وطرائق كلامها أبهرك حديثه، ودقَّة فهمه، وجميل وصفه وعذب مدرجه على لسانه فهو كالسَّلسبيل يتحدَّر، وإن ساءلته وطارحته حديثاً عن شرح مثلٍ ما وعن قصَّته سرَّك عذب حديثه، وجميل سوقه وطرحه وعرضه ما يأخذ بمجامع الفؤاد، ويحلِّق بك بحديث القوم فتلاً ونقضاً، وإرثهم نظماً وشعراً، لأقوامٍ ما ما قبل (50) عاماً، أو (500) عامٍ، أو(1000) عامٍ أو( 1500) عامٍ، سعة اطِّلاع، وقّوَّة بيان، وحسن عبارة، وتدفُّق معلومة، وجمال عرضٍ وبسطٍ، وطلاقة لسان= ذاكم هو النَّادرة العلاَّمة اللغوُّيُّ النِّحرير: أد. سعود بن عبد الله آل حسين متَّعه الله بالصَّحة والعافية.
وقد عرفته أّوَّل مرَّة إبَّان تدريسه إيَّانا في أواخر سني دراستي مرحلة (البكالوريس) لمقرَّر (فقه اللغة) فقد كان أستاذاً لهذا المقرَّر في العام (1417/ 1418هـ) في كلِّيَّة اللغة العربيَّة بجامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة في مدينة الرِّياض العامرة.
وكان من طرائف حديثه وماتع كلامه أنَّه يستفتح محاضراته بأبيات شعرٍ عجيبةٍ لطيفةٍ يشدُّك بها إليه، ويهذِّب بها ذائقتك ويذهِّبها، ويصقل بها لغتك، ويطرب بها سمعك، وتأخذك أيَّ مأخذٍ، من مثل قول رهين المحبسين شيخ المعرَّة:
تواصل حبل النَّسل ما بين آدمٍ
وبيني، ولم يوصل بلامي باءُ
تثاءب عمرٌو إذ تثاءب خالدٌ
بعدوى، فما أعدتني الثُّؤباء
أو أبيات من لاميَّة العرب للشَّنفرَى.
وبعد أن يقبض عليك بمجامعك يُقلَّك صحبةً معه في هذه الرِّحلة؛ فإذا هو يبحر بك في عوالم العربيَّة فنونها وأفنانها، فيغوص بك أعماقاً، ويحلِّق بك إلى السَّماء أسباباً وأعناناً فإذا أنت في بحرٍ غطمطم من فقه هذه اللغة الشِّريفة: جميل خصائصها، ودقيق سماتها، وأعراضها وأغراضها، وعوارضها وحواشيها ومتونها، ممَّا لا يملُّ منه طول الحديث به، وكنت أحتفظ ببعض ما دّوَّنته عنه من ذلك في كراريس مخصَّصة للمحاضرات آنذاك.
وتمضي السّنون عشرٌ أو تزيد وأنتقل من التَّعليم العامِّ إلى التَّعليم الجامعيِّ في العام (1429هـ)، وأصبحت من ضمن كوكبةٍ هي أعضاء هيئة التَّدريس في قسم النَّحو والصَّرف وفقه اللغة في كليَّة اللغة العربيَّة، وقد كان أستاذنا أد. سعود آل حسين وقتها رئيساً للقسم فاغتبطت بذلك أيَّما اغتباطٍ، وقد عرضت عليه شيئاً ممَّا دّوَّنت عنه لمَّا كنتُ طالباً عنده في المرحلة الجامعيَّة ممَّا سلف حديثه آنفاً، فسرَّ من ذلك وحمد وشكر، وأصبحت أجلس إليه كثيراً في مكتبه مكتب رئاسة القسم، يغريني بذلك سالف تلمذتي له ويجمع بيننا جذم تميمٍ، مع حسن نحيزة أستاذنا، وطالع بشر محيَّاه؛ فأتعلَّم من تعامله مع قاصديه ومراجعيه فنون الرِّئاسة وصنوف التَّعامل مع مرؤوسيه وزّوَّاره، وهذه هي فوائد المجالسة مع أهل العلم والحكمة، وكان على عادته بحراً كرماً وجوداً وخلقاً، دام بالسَّعد رافلاً.
ولأستاذنا المفضال أ.د. سعود آل حسين لطائف ونكت علميَّة، فمن ذلك ما حادثنا ونحن جماعة عنده من الإشكال الَّذي يعتري الكاتبين والطُّلاب في الإملاء، والنِّزاع واللجاجة من قبل أساتذتهم في إفقاههم صور رسم الهمزة مع إغفال أصلٍ في ذلك أصيلٍ، وهو أنَّ الهمزة ترسم على صورة الحرف الَّذي تسهَّل عليه؛ فكانت هذه فائدة نفيسة من فضيلته، وأنا قد نظرتُ في أمر كتابة العربيَّة كلِّها واستقريت ذلك فاستبان لي أنَّ الكتابة مبنيَّة على قواعد أربع، هنَّ أصول الرِّسم والهجاء كلِّه، ولعلَّ الله أن ييسِّر لي نشرها في بحثٍ يستكمل أحوالها، والتَّفريع عليها، والاستثناء منها، مع إيراد الأمثلة والبراهين والحُجج.
وقد كان ممَّا يشغلني غرابةً أنَّني حينما كنتُ أجرد كتاب (خزانة الأدب) للبغداديِّ استوقفني أمرٌ، وهو أنَّ الرَّجل العربيَّ عند يخرُّ صريعاً في معركة ما مثلاً أو منازلة وهو يصارع الموت يطلب من خصمه وقاتله وطاعنه النَّجلاء وهو ينزع سيفه من صدر صريعه، إذ يبتدره هذا الصَّريع بأن يطلب إليه مرتجياً أن لا تنكشف عورته ولا تظهر للنَّاس، ويعتذر من طِلبته تيك أنَّه لم يستحدَّ، وهذا من أخبارٍ لهم قبل ظهور الإسلام؛ فأثار ذلك مكامن ذهني واستفزَّ مشاعر خاطري؛ فما له وما للاستحداد! وهو ينازع الموت يستجدي قات له بهذا الأمر؟! فكان ذلك مستشكلاً فهمه عندي، ولا وجه لطلبه إلى قاتله ولا تعليله لتلك الطِلبة، وساءلت فيها عدداً من الزُّملاء والعارفين باللسان فما أدَّوا إليَّ بجوابٍ مقنعٍ ولا بتوجيهٍ وجيهٍ، وقد داخلت بها على أستاذي أد. سعود آل حسين قلتُ لنفسي: كلُّ الصَّيد في جوف الفَرأ، وإذا وردتَ على مَعينٍ فقد وردت مورداً نعمَّا هو، وانتجعت روضاً مربعاً، وماءٌ ولا كصدَّاء، وربيعٌ ولا في الصُّمَّان؛ فقال سلَّمه الله وسدَّده: إنَّ العرب تأنف من سوء السُّمعة وتأنف من القباحة، وتحمي أحسابها ومآثرها، وممَّا يستقبح عندهم عدم الاستحداد فهو دليل من انعدام النَّظافة وتمكُّن القذارة، فكانوا يأنفون من أن يؤثر عنهم أنَّهم واقعون في شيء منه، ولهذه الأنفة والسُّمو والشُّموخ فهو يحرص على سمعته وهو ينازع، ويحرص الآخر على تنفيذ طلبة خصمه وقتيله، وهذا من عجيب صنعهم، وجميل آدابهم على شدَّة التَّناحر فيما بينهم، وفي صحيح الآثار عن النَّبيِّ المصطفى المختار أنَّ الاستحداد من الفطرة.
ومثل ذلك ما علَّق عليه وتحدث عنه وحدَّثنا به من كلامه على مقطع صوتيٍّ مرئيٍّ تحدَّث فيه صاحبه عن أنَّ العربيَّة هي لغة الكون أو اللغة الكونيَّة فكان من حديث فضيلته عن هذا أنَّ المسائل العلميَّة تعالج بالمنهج العلميِّ لا بالعاطفة، وذكر أنَّ هذا الكلام من اللغو، وهو من الهراء وإلى التَّّهريِج أقرب؛ إذ لا ينهض ذلك علميًّا، وإنَّما يفرح به ويعجب مَن تتلاعب به مشاعر العواطف ممَّن يحب لغته وهو من غير المتخصِّصين، فيستحلي عصف وهَجها ويطرب لهذا القول، أمَّا مسائل العلم والمنهج العلميَّ فلا يقبل فيه مثل هذا، ولا ينسب إِليه مثل هذا الكلام.
ومن مثل هذا ما جاء في مقطع آخر أنَّ العربية فيها أطول مخرج صوتيٍّ لحرفٍ، وأَن طول المخرج (35سم) فيُعلِّق أستاذنا على ذلك بأنَّ هذا كلام كسابقه فيه مغالطات، فالمخرج هو المكان الَّذي يستبين منه الصَّوت، ولا يوصف بالطُّول بل يوصف المخرج بالقرب والبعد، وأنَّ أبعد المخارج هو الجوف، والمراد به ما بعد الحلق إلى ما قبل الحنجرة والحبل الصَّوتيِّ، وليس المراد به المعدة أو الرِّئة، فلا مخرج طوله (35سم)، فمثل هذا الطول يصل به إلى الرِّئة بل المعدة، فهذا كلام مَن لم يعِ ما يقول، وممّن يتكلَّم فيما يجهله، لكن بلسان العاطفة وتمجيد العربيَّة؛ لذا يستحلي بعض النَّاس التَّمدُّح ولو بغير الحقيقة، وليس هذا منهم كذبًا بل هو ينمُّ عن الجهالة فإذا اختلطت الجهالة مع العاطفة كان نتاجها مثل ذلك.
ويذكر أستاذنا الممجَّد المسدَّد أد. سعود آل حسين أنَّ وسائل التَّواصل الاجتماعيِّ ملأى بمثل هذا الغثاء الَّذي بعضه هراء، وأعيب ما فيه اعتماده على غير الحقيقة، وكون صدوره عن غير متخصِّص، والتَّعذير بأنَّه تمجيد ومدح للعربيَّة، فحاله كحال من قال: لا أكذب عليه، ولكن أكذب له! فالعلم لا ينهض بالتَّخرُّصات أو بالكذب له ولا بالأوهام والظُّنون والأمنيات مع عجنها بالعاطفة، وإنَّما هذا ديدن من يريد إلهاب المشاعر، أمَّا العلم فيتحقَّق والمعرفة تزدهر بالحقائق المجرَّبات والبراهين السَّاطعات، والحجج الكاشفات وَفق منهج علميٍّ معتبر، وبه تنهض الدُّول والمراكز والهيئات.
ويذكر زميلنا النَّحوُّيُّ اللغوُّيُّ البارع د. فهيد بن عبد الله القحطانُّيُّ، وهو من ذوي العلم والقدر والفضل والمكانة عن أستاذه أد. سعود آل حسين من ذلك عجباً دقَّةَ ضبطٍ، وقّوَّة حجَّة، وصرامة منهج، وعناية تحرير، وزكانة توثيق، وخدمة لمعاجم العربيَّة، وطول باعٍ فيها، وأستاذنا أشرف على زميلنا في رسالته لنيل درجة (الدُّكتوراة)، وهي في تحقيق معجم لغويٍّ.
وبعد تقاعد أستاذنا لم يُتعاقد معه بعدُ، وهو خسارة كبيرة لقسم النَّحو والصَّرف وفقه اللغة، ومهما يكن من شيء فابتعاد مثله خسران للقسم ولفرع فقه اللغة بالقسم فقلَّ من يسدُّ مسدَّه، ووجوده وجود، وقد أثلج الصَّدر وسرَّ الخاطر ما نماه إليَّ فضيلته من عودته إلى القسم في العام القادم (1443هـ) فهنيئاً لنا وللقسم ولطلاَّب فقه اللغة عودته غانماً.
متَّع الله أستاذنا الألمعيَّ اللغويَّ الكبير: أ د. سعود بن عبد الله آل حسين التَّميميَّ بالصَّحة والعافية، وأمتَّعنا الله وذويه وطلاب العلم بمهجته ومحيَّاه، ويسَّر له كلَّ عسير، وبارك له في عمله وعمره، وجزاه الله خيراً لقاء ما قدَّم في سني عمله للعلم ولطلبته، وجزاه الله خيراً جزاءَ العلماء المخلصين والأساتذة النَّاصحين. والحمد لله ربِّ العالمين.
** **
د. فهيد بن رباح بن فهيد الرَّباح - كلِّيَّة اللغة العربيَّة - جامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة.
fhrabah@gmail.com