إبراهيم بن جلال فضلون
التاريخ يُعيد نفسه، والدُنيا لن تظل على حالها، لكن الهوان والذل والخنوع والانكسار يتبعهُ شعور بغيض تأباهُ الفطرة السليمة والأخلاق النبيلة؛ ليكون جُرحاً لا يندمل، والفقيد الذي لا يُمكن تعويضهُ والانهيار الهادم للنفس فلا يُحسن، ولا يُرمم ولا يُبقي ولا يذر، لقول عنترة بن شداد:
لا تسقني ماء الحياة بذلة
بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
ماء الحياة بذلة كجهنم
وجهنم بالعز أطيب منزل
فمن يظُن أنه على شفا حفرة الهوان والتداعي والانهيار، فيمر بين الناس فلا مكان له بأعينهم سوى هاوية الهوان والحقد ومكنون الكراهية، التي حُكي عنها زمن الاستعمار البريطاني للهند، أن ضابطاً إنجليزياً صفع هندياً فقيراً على وجهه، فردها له بكل ما أتاه الله من قوة حتى أسقطه أرضاً، فترنح الضابط مندهشاً وهو يجري شاكياً لقائده، وهو يردد كيف يتجرأ مواطن هندي على صفع ضابط في جيش إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس؟.. فما كان من القائد إلا وقد أخذه إلى مكتبه وفتح أمامه خزينة ممتلئة من خيرات الهند، قائلاً للضابط بأمر عسكري: «خذ من الخزينة خمسين ألف روبية، واذهب إلى المواطن الهندي، واعتذر منه على ما بدر منك، وأعطه هذه النقود مقابل صفعك له»، فجُن جنون الضابط، مذهولاً للمرة الثانية من ابن جلدته دونما أن يعي الخبث ومرارته التي يُخفيها من الإهانة لجيش صاحبة الجلالة، بل وإهانة لصاحبة الجلالة نفسها.
فامتثل الضابط لأوامر قائده، وذهب للهندي في مهانة معتذراً له، مقدماً له خمسين ألف روبية هدية للاعتذار، حتى قبلها الأخير، وبعد سنوات من الثراء، صار الهندي رجل أعمال، ونسي الصفعة لكرامته، لكن الإنجليز لم ينسوا صفعة الضابط، إذ استدعى القائد الإنجليزي الضابط الملكوم قائلاً: «أتذكر المواطن الهندي الذي صفعك، قال: كيف أنسى؟، قال القائد: حان الوقت لتثأر فابحث عنه واصفعه أمام أكبر حشد من الناس، قال الضابط: لقد صفعني وهو لا يملك شيئاً، واليوم قد أصبح من رجال الأعمال، وله أنصار ونفوذ وحراس، وقد يقتلني. قال القائد: لن يقتلك اذهب ونفذ الأمر بلا نقاش».
وما أن رأه الضابط وحوله أنصاره وخدمه وحراسه وجمع من الناس، حتى استعادت يده قوتها وبما يملك من ذاكرته، وصفع الهندي حتى أسقطه أرضًا دون أي ردة فعل، بل لم يجرؤ على رفع نظره في وجه الإنجليزي، لترتسم الدهشة في المرة الثالثة على وجه الضابط المنتصر، مسرعًا إلى قائده، الذي بادره: لما هذه الدهشة؟، ليرد الضابط: «في المرة الأولى رد الصفعة بأقوى منها وهو فقير ووحيد، واليوم وهو يملك من القوة ما لا يملك غيره لم يجرؤ على قول كلمه، فكيف هذا؟».. وقد كان الجواب الماكر من القائد الإنجليزي: «في المرة الأولى كان لا يملك إلا كرامته، ويراها أغلى ما يملك فدافع عنها، وفي المرة الثانية بعد أن باع كرامته بخمسين ألف روبية لم يستطع الدفاع عنها خوفًا على مصالحه».
واليوم تتكرر الأحداث والخطوب، على خلفية بعض السياسيين والرؤساء الأوربيين ممن يدعون ملكية البشر، ودونهم عبيد.. لكنهم هُم أنفسهم عبيد الهوى وضلالات المناصب والمصالح والكراسي والنفوذ الهالكة لا محالة. وإلا لنفع أبا لهب مالهُ عند هلاكه، فمن باع نفسه فليحتمل نظرات الآخرين له، فما بالك برئيس دولة، يُصفع أكثر من مرة على وجهه في موقف مُحرج لإيمانويل ماكرون، عندما كان يمُر ليُحيي عددًا من الحاضرين وسط حراسته، وُسمت به وسائل التواصل بصفعة «الماكرونية» الثانية، في «حادثة إهانة للديمقراطية» التي هي «خارجة عن الخدمة».. لينضم لقائمة البارزين المكروهين من المشاهير ورؤساء أكبر الدول في العالم، لـ»تسقط الماكرونية»، أمام عبارة «مونتجوي سانت دينيس Montjoie Saint Denis»، والتي كانت صرخة معركة الجيوش الفرنسية عندما كانت البلاد لا تزال ملكية.. فأنى له أن يحيا الإنسان، وقد هانت كرامته وقيمته، ولا عجب أن يبيع قيمه وأخلاقهُ ووطنه، لتبقى ذكراهم كـ(.....)، ولم ينالوا إلا العار وسوء المآل، وقد صدق المتنبي نظماً:
مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوَانُ عَلَيهِ
ما لجُرْحٍ بمَيّتٍ إيلامُ.