د.سالم الكتبي
قرأت خلال الفترة الأخيرة العديد من المقالات والتحليلات التي تتناول مسألة ترتيب الأولويات في الشرق الأوسط بالنسبة للقوى الدولية، وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث ينتقد الكثير من المراقبين الاهتمام الأمريكي الكبير بمعالجة أزمة الملف النووي الإيراني على حساب ملفات إقليمية أخرى يرونها أكثر أهمية وإلحاحاً في مقدمتها قضية الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، الذي يمثل حجر الزاوية في حالة الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة.
والحقيقة أن أجندة أولويات أي قوة كبرى تنطلق من مصالحها الإستراتيجية بالدرجة الأولى، وهذه بديهية لا نقاش فيها، وبالتالي علينا، إذا كنا نريد فهم المنظور الإستراتيجي الأمريكي لقضايا منطقة الشرق الأوسط، أن ننطلق من هذه الزاوية، التي يمكن من خلالها فهم مغزى الاهتمام بأزمة الاتفاق النووي الإيراني. فالمؤكد أن الأمر لا يتعلق بإيران، رغم ثقلها الإقليمي، ولكنه يرتبط أساساً بعاملين مهمين أولهما حساسية صانعي القرار في إسرائيل والولايات المتحدة لامتلاك نظام الملالي قدرات تسليحية غير تقليدية يمكن لها تهديد التفوق العسكري الإسرائيلي، أو بناء قوة ردع تحد من هامش المناورة التكتيكية الإسرائيلية في التصدي لأي تهديد لأمنها القومي، ثانيهما عامل الزمن الذي يلعب دوراً بالغ الخطورة في أزمة الاتفاق النووي الإيراني، فكل التقارير الاستخباراتية وحتى تقارير وكالة الطاقة الذرية الدولية، تشير إلى اقتراب نظام الملالي من امتلاك القدرات اللازمة لصناعة قنبلة نووية، ولاسيما مع تجاوز معدلات تخصيب اليورانيوم أكثر من 60 % خلال الآونة الأخيرة، ولا يجب أن نتجاهل هنا تصريحات رافائيل جروسي المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية التي وصف فيها البرنامج النووي الإيراني بأنه «مقلق للغاية»، مشيراً إلى أن نظام الملالي يقوم بتخصيب اليورانيوم بدرجات نقاء لا تصل إليها سوى الدول التي تصنع «قنابل» وقال نصاً «تخصيب دولة ما (اليورانيوم) بدرجة نقاء 60 بالمئة أمر خطير للغاية.. لا تصل إلى هذا المستوى سوى الدول التي تنتج قنابل»، وأضاف أن مستوى النقاء «60 بالمئة يكاد يكون مستوى إنتاج السلاح، التخصيب التجاري من اثنين إلى ثلاثة (بالمئة)»، وهذه التصريحات تضفي صدقية كبيرة على التقديرات الاستخباراتية الغربية التي تتحدث عن «أشهر قلائل» تفصل الملالي عن إنتاج سلاح نووي، ما يمنح هذا الملف وضعاً ملحاً للغاية ضمن أولويات البيت الأبيض، باعتباره الضامن والحليف الأساسي لإسرائيل، ناهيك عن أن الولايات المتحدة - بحكم كونها القوى العظمى الأولى عالمياً، لديها مصلحة كبرى في الحيلولة دون امتلاك إيران قدرات نووية عسكرية، سواء بحكم تحالفات هذا النظام وتوجهاته المعادية للولايات المتحدة، أو بحكم خطورة وجود قوة نووية في منطقة الخليج العربي التي تحظى بأهمية إستراتيجية استثنائية ضمن حسابات الهيمنة والنفوذ وصراعات القوى الدولية الكبرى.
هذه الرؤية التحليلية المجردة لا تعكس - بطبيعة الحال - رأياً ذاتياً بواقعية تراجع أهمية الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي ضمن حساب الأولويات الإستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، ولكنها ليست سوى تفنيد للسياسات والمواقف الأمريكية، فمركزية القضية الفلسطينية بالنسبة للدول والشعوب العربية، لا تعني بالضرورة أنها قضية مركزية بالنسبة لصناع القرار في العواصم الكبرى، لاسيما في ظل التعقيد والتشابك الذي تتسم به هذه القضية، والجميع يعرف الكم الهائل من قرارات الأمم المتحدة والجهود والجولات التفاوضية التي مرت بها من دون أن تشهد اختراقاً نوعياً حقيقياً على أرض الواقع.
الحسابات المجردة التي ترصد هذه الأولويات لا تعني أنها قوالب جامدة بل يمكن أن تشهد تغيرات ولو مؤقتة بحكم تغير المعطيات والظروف المؤثرة، والجميع تابع كيف أن بؤرة الاهتمام الأمريكية اتجهت فجأة خلال الأسابيع الماضية للبحث عن مخارج وحلول تنهي التصعيد العسكري بين إسرائيل والتنظيمات الفلسطينية، وكيف تدخل الرئيس بايدن مرات عدة عبر اتصالات هاتفية مع قادة وزعماء دول إقليمية عدة للبحث عن تهدئة ووقف لإطلاق النار. وقناعتي أن الأمر لا يتعلق بأولويات بقدر ما يرتبط بمحاولة السيطرة على ألسنة اللهب الأكثر قابلية للاشتعال، والسعي نحو غلق الملفات الأكثر سخونة وتأثيراً على مصالح الولايات المتحدة والحليف الإسرائيلي على وجه التحديد. ولا يجب أن ننسى أن احد أهم دوافع إدارة الرئيس بايدن للدفع باتجاه البحث عن تسوية لأزمة الملف النووي الإيراني هو تفادي تورط إسرائيل في حرب استباقية تستهدف إجهاض المشروع النووي الإيراني، مع ما ينطوي عليه هذا السيناريو من احتمالات لا يمكن التقليل منها بشأن تورط الولايات المتحدة في أي مواجهة محتملة بين إيران وإسرائيل.
ومع ذلك فإن خطورة التوتر بين الفلسطينيين وإسرائيل حين قفزت إلى صدارة الأولويات لم تؤثر في وضعية البرنامج النووي الإيراني، الذي يراه بعض المراقبين والمحللين العرب، لا يمثل خطراً من الأساس، وهي نظرة تنطلق من مصالح قُطرية ضيقة لا تقوم على حسابات إستراتيجية مقنعة، فـ«الجني» النووي الإيراني - كما أسماه - مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية - إذا خرج من «قمقمه» على الضفة الأخرى من الخليج العربي، سيقلب كل المعطيات الإستراتيجية رأساً على عقب، وعلى أصحاب هذه الرؤية أن يفكروا قليلاً في سلوكيات نظام الملالي الذي يعربد في دولنا العربية وتباهى باحتلال أربع من عواصمها من قبل أن يمتلك قنبلة نووية، وإلى أين يمكن لهذه السلوكيات أن تذهب في ظل وجود «زر نووي» بيد المرشد!