د. فهد بن أحمد النغيمش
خلق وطبيعة تكون في بعض الناس لا تنفك عنهم ولا تتجاوزهم تبقى متلازمة دوماً في تعاملهم مع من حولهم فتراه إن رأى زلة انتقدها، وإن اطلع على عمل وافق التمام لم يرضَ حتى يُسجل له موقف انتقاد، وكأنه عالم بكل شأن، عارف بجميع الأحوال!
هؤلاء بهذه الطبيعة والصفة يهدمون فيمن حولهم دون أن يشعروا، ويثيرون دعوى الضغينة والأحقاد بل هو مدخل من مداخل الظن السيئ، وديننا دين بناء وأخوة وتعاون، من كانت هذه الطبيعة فيه حُرم لذة العيش في الدنيا، بل وقد يُحرم لذة العبادة أيضاً، والشيطان يمد له في هذا المجال باسم النصيحة وباسم تغيير الحال للأفضل ونحوها، حتى يجعله يمل كل من حوله ويمله الناس من حوله، فهذا النموذج يُحرم لذة الدنيا لأنه لا يرى أن هناك شيئاً مستقيماً كما يحب هو ويريد، فهو لا يبحث إلا عن النقائص والمنغصات فكيف تستطيب حياته:
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى
ظمأت وأي الناس تصفوا مشاربه
لا يرى إلا الجانب المظلم من الحياة فهذا متى تشرق شمسه.
إن كان رئيساً في العمل تعب معه موظفوه، فهذا لا يعجبه لباسه، والآخر لا يعجبه خطه، والثالث لا تعجبه مشيته، والرابع والخامس وهكذا.. لا يجد الموظفون منه كلمة ثناء أو شكر، بل هو في دوامة انتقاد دائم، وهو هكذا في بيته ومع أولاده وفي حيه!
وإن هو صلى خلف الإمام لم يكن تفكيره في الآيات التي يسمعها وما فيها من وعد أو وعيد، وإنما جل تركيزه هل جاء الإمام بأحكام التجويد كما ينبغي؟ هل أخرج الحروف من مخارجها؟
وأشد ما يكون هذا الخُلق فتكاً حينما يكون بين الزوجين، وكم من بيوت هدمت بهذا السبب، فالزوج قد يدخل بيته وتكون زوجته قد بذلت جهدها في ترتيب بيتها وفي التزين له وتنظيف أولاده ورعايتهم، فإذا به حين يدخل بيته يبحث عن النقائص.. ما تلك النقطة السوداء الصغيرة التي أراها بالجدار؟، لماذا الملح قد نقص من الطعام؟ ما لي أرى باب تلك الغرفة مفتوحاً أو باب تلك الغرفة مغلقاً، فتنهار تلك المسكينة وتتحطم نفسيتها التي كانت مهيأة لكلمة شكر أو إعجاب.
يقول علي ابن أبي طالب -رضي الله عنه-: (لا تكثرن العتاب فإنه يورث الضغينة ويدعو إلى البغضاء واستعتب لمن رجوت عتابه).
وقد يقول قائل: كيف تقوم الحياة وتتطور إن لم يكن هناك توجيه وانتقاد، كيف تعرف الزوجة أو كيف يعرف الولد أو كيف يعرف الموظف أنه أخطأ؟
إن إلغاء الانتقاد من حياة الناس أمر صعب والحياة لا تقوم وتتطور إلا بالتوجيه الحسن لا بالانتقاد اللاذع، والإسلام جعل النصيحة واجبة بين المسلمين لهذا الغرض لكنه وضع لها ضوابطها، لكن ذلك الذي يرى في نفسه وحده الكمال وفي كل من حوله النقص، فهذا شخص مريض بالغرور والكبر.
ثم ليعلم كل مسلم أنه ليس الزاماً أن يكون له رأي في كل أمر، وإنما يمرر كأن لم يسمع ويتغابى وإن كان يفهم منعاً للجدال وخروجاً عن الإشكال.
إذَا كُنْتَ فِي كُلِّ الأُمُورِ مُعَاتِبًا
خَلِيلَكَ لَمْ تَلْقَ الذي لا تُعَاتِبُهْ
فَعِشْ وَاحِدًا أَوْ صِلْ أخاكَ
فإنَّهُ مُقَارِفُ ذَنْبٍ مَرَّةً وَمُجَانِبُهْ
لا بد أن يكون المسلم رأياً للحسنات والسيئات معاً، لا رأياً للسيئات وحدها فقط، فالمسلم لا ينظر بعين واحدة عين تتبع العورات والعثرات! بل لا بد أن يكون مدى رؤياه أرحب من ذلك بكثير، فالتصرف الأمثل أن يثني بداية على من قصد بالنصيحة، ثم يلمح دون أن يصرح، وله في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدوة حين وجهه النصيحة بقوله (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا) هم يجلسون معه، ويعرفون أنه يقصدهم، يتحدث عنهم، لكنه لا يجرح مشاعرهم، لا يفضحهم ويعرف الناس بهم، اختر كلماتك بدقة عند تقديم النصيحة، فأنت تنتقد، وهذه وحدها كافية لأن تغضب الآخرين ولو كان مقصدك حسنا وتوجهك شريفا {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم}، هذا الأسلوب هو الذي يبني الثقة في النفس بينما النقد اللاذع الفاضح هو من يهدمها ويقوضها.