د. محمد عبدالله الخازم
بدايةً، أشير إلى أن بعض محاولاتي نقد الثقافة الإدارية يستند إلى قناعة بأن أحد شروط التطور يستوجب النقد الذاتي للثقافة المجتمعية وتعرية بعض سلبياتها وأثرها في واقعنا الحديث ومنه واقع الإدارة. وملحوظة أخرى، أكتب عن ظواهر لا أعمم على المجتمع ولا أخصص على أفراد. أهتم بملاحظات الآخرين، لكنني لست مسؤولاً عن تفسيراتهم!
اليوم أكتب عن ظاهرة الكذب في الأوساط الإدارية وأتجنب القول بشيوعها فيكون انطباعاً لا أملك دليله. البعض يقبلها ويعتبرها ضمن فنون الحكمة والسياسة والمراوغة. أو ضمن فلسفة «خلك ذئب» في وجهها السلبي الذي يبرر للوسيلة مقابل تحقيق المكسب. السؤال: لماذا يكذب الإداريون أو الموظفون أو القادة في المنظومات المختلفة؟
سببان يمكن التفكير فيهما لتبرير الكذب؛ الاضطرار والسعي لتحقيق مكسب أو مصلحة. أنا مضطر للكذب على الموظف أو الزبون أو المسؤول الأعلى أو المجتمع لأنني مضطر لذلك. لسان حال البعض؛ إن لم أكذب سيغضب المسؤول، إن لم أكذب لن يتم ترقيتي، إن لم أكذب سيتم فصلي، إن لم أكذب فسأحرج من المراجع ... إلى آخره من المبررات المشابهة. البعض يراه قاعدة، لا يمكن تسيير العمل دون التحايل وقوامه الكذب الذي يصنف ضمن مواهب المداراة والتقية واللباقة والذكاء الاجتماعي. وفق ذلك أصبحت الكذبات ملونة؛ بيضاء وبريئة ورمادية وسوداء...
طبعاً، الأمر هنا يعني ضمناً ما هو أسوأ من الكذب الفردي، إلى تسمم البيئة المحيطة، بيئة العمل أو بيئة المجتمع، بظاهرة الكذب أو ما يقود إلى كذب الناس، مثل خوفهم من الصراحة أو انتهازيتهم للظروف أو غياب الشفافية ... إلخ، بل إن البعض ينفي أنها ظاهرة تخص مجتمع الوظائف والمؤسسات الحكومية والأهلية، إلى كونها ظاهرة اجتماعية عامة نشهدها بين أفراد المجتمع ويتقبلها الكثيرون من مبدأ غض النظر والتسامح والتجاوز.
ليس الجميع يكذب مضطراً، بل هناك من يعتقد أنه يحقق مصلحة فردية أو عامة ما عن طريق الكذب، وأخطر ما في الأمر هو تحول الكذب إلى ظاهرة سلوكية يومية أو تحولها إلى فعل العمد واستخدامها في التقارير بما ينطوي عليه الأمر من تحايل وربما مساءلة قانونية. الأسوأ من ذلك كله هو تتحقق نتيجة إيجابية لبعض الكذب تجعله مبرراً أخلاقياً في ذهن فاعله أو من يفكر بنفس الطريقة، ومع الوقت يصبح سلوكاً فردياً أو جمعياً في البيئة المحيطة.
البيئة التي يزيد فيها الكذب تتناقص فيها الثقة بين القيادات والموظفين والمستفيدين وتوضع المصالح الفردية قبل العامة ويكثر فيها التخريب وتتناقص فيها القيم الأخلاقية. القائد والإداري والموظف المتميز بالصفات الأخلاقية الحسنة لن يتنازل عن الصدق مقابل المصالح وضغوط البيئة والآخرين، بل سيقاوم الضغوطات المجتمعية والسياسية الإدارية والمنفعية لأجل الحفاظ على قيم الصدق أمام نفسه وذويه ومجتمعه. ولا يكون ذلك سوى بالشجاعة والثبات على الحق والعدل و تحّمل المسؤولية.
القائد/ الموظف المجامل والخائف من قول الحقيقة والإجابة والرفض بوضوح والمترصد لإيذاء الآخرين بطرق ملتوية سيقع حتماً في سلوكيات الكذب. في النهاية تذكروا، سواء صغر أم كبر، بُرر أم لم يبرر، الكذب هو الكذب!