بينما تهيأت للنوم في ساعة متأخرة بعد منتصف ليلة الخميس الماضي 6 ذي القعدة 1442هـ إذا برسالة نصية تصلني على جوالي فأوجست منها خيفة وتعالت دقات قلبي إلا أنني لم أتمالك نفسي حتى تناولت الجوال وقراتها فإذا بها تأتي بما كنت أخشاه وأتوجس منه وتحمل معها نبأ رحيل أحد طلائع شباب قبيلة العمارين بميسان بني الحارث من المعلمين الذين أفنوا زهرة شبابهم في هذه المهنة المباركة المربي القدير الأستاذ منصور بن صالح العمراني الحارثي، وكم تألمت كثيراً وحزنت حزناً شديداً عندما تذكرت على الفور آخر زيارة زرته فيها قبل حلول جائحة كورونا في داره بحي الشرائع بمكة المكرمة برفقة أخي وصديقي الأديب د. يوسف العارف وما رأيته عليه من حال ومكابدة لما حل به من مرض عضال تحمله وصارعه برضا وصبر وبعزيمة الإنسان المؤمن المحتسب حتى أتاه اليقين وحانت ساعة الرحيل وبقيت سيرته وذكره الطيب عبقاً ندياً يفوح بيننا غفر الله له وأسكنه فسيح جناته وأصلح عقبه وجعل ما حل به من أمراض وآلام مكفرات ومقدمات لجنة عرضها الأرض والسموات.
تولى وأبقى بيننا طيب ذكره
كباقي ضياء الشمس حين تغيب
ولاشك أن موت كل غال وعزيز على النفس له أثره عليها وتبقى ذكراه خالدة مقيمة بين الجوانح والقلب وإن تباعدت الأجسام في الدنيا بحكم مشاغلها ومتاعبها التي لا تنتهي إلا أن مصيرها الالتقاء مرة أخرى بقدرة الله وعفوه ومغفرته في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
فإن كانت الأجسام منا تباعدت
فإن المدى بين القلوب قريب
ومع ألم الحسرة ومكابدة لوعة فراق فقيدنا الغالي (أبو غالي) رحمه الله وما كان يتسم به من تواضع ولين الجانب وسماحة المحيا وطلاقة الحجاج والابتسامة التي لا تكاد تفارقه طافت بي الذكرى لتلك الأيام الخوالي التي كان قد قضاها منذ سنوات طفولته وشبابه هناك في ربوع وادي العمارين ببلاد ميسان وقبل أن يستقر بعد تقاعده بمكة المكرمة بعد رحلة حافلة بالجد والعطاء فمن ميسان انطلقت أحلامه وآماله وهو يسرح في واديها ويرقى جبالها ويسابق نسماتها العليلة ويناغي الطير والزهر وهمسات الشجر وضوء القمر ويستقي من شقيقه الأكبر الراحل مصلح بن صالح رحمه الله الحكمة وعلوم الرجال والبوردة ومعالي الأمور فشب وترعرع بيننا وكما عرفناه مثالاً للخلق الرفيع والقيم السامية والشيم العربية الأصيلة.
أيام كنت أناغي الطير في جذل
لا أعرف الغم في الدنيا وبلواها
ولازلت أتذكر تماماً حينما كان هو وشقيقه الأكبر رحمهما الله جميعاً ما أن نأتي أنا ووالدي رحمه الله من الطائف لزيارة قريتنا العمارين حتى نجدهم يتسابقون من باب دارهم التي تقع على مداخل القرية محيين ومرحبين ومهلين بنا بوجوه مشرقة مستبشرة فلا يتركوننا إلا بعد أن يقوموا بإكرامنا خير إكرام ناهيك عن ليالي السمر التي كانوا يقضونها مع والدي بين طرائف الأحاديث والذكريات والأشعار وكأننا من أسرة واحدة في تآلفنا وصداقتنا النقية المترفعة عن كل زيف وغرض دنيوي زائل.
حبيب إلى الزوار غشيان بيته
جميل المحيا شب وهو كريم
وإن أحزننا فراق (أبوغالي) وغيابه عن نواظرنا وطواه الثرى في رحلة المصير المحتومة فإن ذكره الجميل سيتجدد على مر الأيام وتعاقب الأجيال وسيظل باقياً فينا وكلما جئنا على سيرته وسيرة أسرته الكريمة ممن سبقه من الراحلين أو الباقين، تغمده الله بعظيم مغفرته وواسع رحمته وألهم زوجته وأبناءه غالي وعبدالعزيز وابنته المتميزة علماً وخلقاً الدكتورة فوزية وكافة أسرة الصاهلي العمراني الحارثي الصبر والرضا والسلوان، وكل ما أرجوه ممن يقرأ هذه الكلمات أن يدرك تماماً أن كل أقدار الله خير وتأتي من رب الرحمة والخير، كما أدعوهم بألا يبخلوا ويجودوا على فقيدنا وكل من رحل عن دنيانا الفانية من الأهل والأصدقاء والأقارب والزملاء بصادق الدعاء فإنها لهم في قبورهم نور وسلوة وبهجة ونجاء، رفع الله عن بلادنا وعن الأمة شر ما نحن فيه من وباء وبلاء ومتعنا وإياكم بتمام الصحة والسلامة و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
** **
- مشعل عيضه الحارثي