أحمد الدويحي
شكلّ الأستاذ محمد علوان، أحد أهم رواد القصة القصيرة الكبار الذين يُشار إليهم بالبنان، وهو مع (جيله) الذين خلقوا لنا فضاءً سرديًا فنيًا، أضاء الطريق لجيلٍ أدبي، أتى بعدهم لكون هذا الجنس الأدبي الممتع، فنًا تراكميًا لا ينشأ من فراغ، ولا يأتي من العدم.
ولا بد من الإشارة إلى إلى أن فضاء الفن السردي، يأتي بوصفه بعدًا جوهريًا من أبعاد الوجود الإنساني، وسؤالاً يفرض حضوره للكاتب، فيخترق السرد الواقع بتشكله الجغرافي، وبمقوماته الثقافية والسياسية والمجتمعية، ليُشكّل بعدًا موازيًا لعالم، تنتظم فيه الكائنات والأشياء والأفعال، وهي بدورها تشكِّل معيارًا لقياس الوعي والعلاقات الإنسانية، ويصبح الفضاء مكونًا أساسيًا في سرد الخطابات المتجاورة والمتعددة، والسرد يعني الأخبار من صميم الواقع أو من نسج الخيال، أو من كليهما معًا في إطار زماني ومكاني، يتسم بحبكة فنية متقنة، ويغلب عليه الزمن الماضي (فلاش باك) وتكثر الروابط الظرفية والأسلوب الخبري، وقيل أن السرد هو من أكثر أنواع الفنون الأدبية إمتاعًا، وجذبًا للمتلقي لما فيه من متعة وتشويق.
مرحلة موغلة في الذاكرة، كان يُشار إلى أن كتّاب القصة الحديثة، يوجدون جميعًا في الرياض، فالقصة القصيرة هذا الجنس الأدبي الأثير الممتع، المراوغ، الميال إلى التكثيف، الوامض في لغته، وزمانه وشخوصه، الحميمي الدافئ في دلالاته، لتشكِّل القصة القصيرة حضورًا مدهشًا في الثمانينيات والتسعينيات الميلادية، وحظيت بطبيعتها كفن أدبي بمكانة ومتابعة، وحظي نتاج ما سُمي حينها بالجيل المؤسس بالمتابعة والقراءة والنقد، وينسب لهذا الجيل ما يمكن قوله، توطين هذا الجنس الأدبي في حضور الشعر الطاغي، وبالذات مع حضور حركة الحداثة الشعرية، وقد نحت في ميلها إلى التجديد فنيًا، واستحضار دلالات، وأشكال، وبني نصية، لا تنتمي إلى السائد من الكتابة التقليدية.
تعددّ فضاء القصة في نصوص تلك الحقبة، وتنوعت في انتمائها إلى المدارس والمذاهب السردية المتنوعة، وتراوحت الأغلبية بين الواقعية والرمزية، وشكَّلت لغة القصة القصيرة الدلالات المتنوعة، ولكنها في مجملها عكست واقعها الزماني والمكاني، مقتربة من اللغة الشعرية الظاهرة في بعض النصوص الكتابية حينًا، ويمكن اعتبار نصوص الأستاذ محمد علوان القصصية نموذجًا لهذا اللون الكتابي، وتتلّون أحيانًا، فنلمح التقنيات الحديثة في نصوص أخرى مماثلة، وتبقى السمة السائدة في خطابات نصوص كتّاب تلك المرحلة، تجسيد فضاء حالات مأزومة، كالضياع، والغربة، والحرمان، والرحيل، والاستلاب، والشتات، والسفر، وصدمة المدينة، والجنون، ورسم صور الفوارق، والهوة المجتمعية الكبيرة، لتشكّل علامات لفضاء النصوص لتلك المرحلة، واقتصرت أغلبية نصوص تلك المرحلة، النظر من زاوية ذاتية، يأتي ذلك لطبيعة جنس القصة القصيرة، رغم حضور الفضاء والبيئات المجتمعية لتلك النصوص.
وإذ لا بد من هذا الاستطراد، وفي الذاكرة أسماء مبدعة ومميزة وكثيرة، برعت في كتابة القصة، وتعلمنا منهم الكثير في تلك المرحلة، وقليل منهم ظل على وفائه لهذا الجنس الأدبي الأثير وكتابته، ومنهم الأستاذ الكبير محمد علوان، تحضرني هنا - قصة ظريفة، وهو المعروف بسرعة البديهة وخفة الظل، والذاكرة تحفظ له الكثير من فخاخ سرعة بديهته، وخفة ظل الفنان وعفويته في شخصيته، يحدث هذا خلال اتصالات بيننا، وتواصلنا المبني على المحبة والمعرفة، وسأسمح لنفسي أروي إحداها، حدثت لي معه قبل عقود بعيدة، حينما زرته في مكتبه، وحينها كان مشرفًا على الملحق الأدبي بجريدة الرياض مع الصديق الآخر الشاعر الأستاذ عبد الكريم العودة، وهو أيضًا مثل أبي غسان لا يقل ظرفًا وخفة ظل، فأراد علوان أن يقدمني له، وقال:
- هذا (القاص الواعد) أحمد الدويحي!
أعرف أني فعلاً كاتب واعد، ولكن أصدقكم أني صدمت، واحتشدت في داخلي، ويبدو أن ردود فعلي ظهرت على وجهي، لكنه بحس الفنان والأستاذ الكبير لم ينس، ليمسح ما علق بنفسي، ويفتح نافذة جديدة للمعرفة، قال لي فيما بعد بروح الكبار بذات الظرف:
- هل لا تزال بعدك واعدا؟
فقلت له بخجلٍ:
- نعم!
وأكمل حكمته بقوله:
- يا صديقي أن تبقى واعدًا، وتحملُ وعدًا، خير من أن تكون منتهيًا، ولا تحملُ شيئًا...
وإذ احتفي متأخرًا هنا - بأستاذي أبي غسان، فلا بد من القول إن الفنان الأصيل بموهبته ووفائه لفنه، يستطيع مسايرة كل الأجيال اللاحقة له، ويكون معلمًا ونموذجًا لهم، وهذا حتمًا ما فعله معي هذا الرائد الكبير.
رحلة طويلة له مع فن القصة القصيرة، بدأت بمجموعة (الخبز والصمت 1977 م)، وكتب لها مقدمة الروائي العربي الكبير كاتب رواية (قنديل أم هاشم) يحيى حقي -رحمه الله-، هذه المجموعة المفرطة في البوح والجمال، قرأت نصوصها بلا مبالغة حينها، ربما عشرات المرات لدرجة الحفظ، وإذا نلتقط الدلالة اللماحة لعناوين أعماله، حينما كرت السبحة وصدرت مجموعة الحكاية تبدأ هكذا 1983 م، وتتبعها مجموعة دامسة عام 1998، لنقف في محطة (هاتف) حديثة الصدور 2014 م، وأخير طائر العشا، وأعلم أن في حوزته لا تزال هناك أكثر من مجموعة ورواية، ليفضي بنا إلى سؤال شائك يحمل إجابته، حول نتاج هذا الكاتب الذي لم يغادر الفن روحه مقارنة بغيره، لنتأكَّد كيف يرصد هذا الفنان عوالم شخوصه، ويسبغ عليهم بتأنٍ من روحه ورفيع لغته، ونجد على سبيل المثال ذلك في نموذج قصة (هاتف)، وهي القصة التي تحمل اسم المجموعة الأخيرة له، لنلمح التجديد في الرؤية، ونتأمل عمق الدلالة التأويلية، إنها تنتمي إلى عالمين وزمنين ومكانين مختلفين في آن واحد، وكل عالم منها له مفاتيحه ودلالته، فالقصة التي ترنو إلى فعل مستقبلي بالقلم، أمسكت عن ذلك بالهاتف في مواجهة مقبرة، كُتب على بابها الحديدي المغلق، قف.
باختصار: محمد علوان، مدهش، وحميم، ولاذع كإنسان وفنان، في لغته الكتابية، وفي فضائه، بصدقه، وحدته، وذكائه، وأناقته.