د.عبدالله بن موسى الطاير
استعرض وزير الدفاع الأمريكي الأسبق آشتون كارتر في كلمة له في المنامة في ديسمبر 2016 قوة بلاده في الشرق الأوسط المقدرة بأكثر من 58000 جندي، بما في ذلك أكثر من 5000 في العراق وسوريا، مدعومة بأقوى دفاعات جوية وبرية وبحرية وصاروخية بالستية متواجدة في «منطقة شديدة الاضطراب والارتباك والصراع الداخلي.. أكثر بكثير من أي منطقة أخرى في العالم». الهدف من تلك القوة الضاربة هو «حماية مصالح أمريكا الوطنية»، ومصالح أمريكا في الشرق الأوسط هي «أولاً وقبل كل شيء» تتمثل في حماية الأمريكيين؛ أي أن ردع العدوان، وتعزيز أمن حلفاء أمريكا وأصدقائها في المنطقة وحولها، وضمان حرية الملاحة في الخليج وبحر العرب والأحمر، ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، ووقف أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار، إنما «ترتبط ارتباطًا وثيقًا بحماية الشعب الأمريكي».
واجهت أمريكا السوفييت إبان الحرب الباردة من على تراب دول الشرق الأوسط، وكانت أرض وبحر وأجواء الحلفاء والأصدقاء وما زالت ميادين تستبق فيها أمريكا الأخطار قبل وصولها للأمريكيين. والحال هذه، كيف تتعامل أمريكا عندما تتقاطع مصالحها مع مصالح الدول المستضيفة لوجودها العسكري؟ ولقد أجاب الوزير بدون تردد بأن «مصالح أمريكا ليست دائمًا نفس مصالح دول المنطقة، سواء فيما يتعلق بكل دولة على حدة أو بمصالح دول المنطقة مجتمعة».
وهذا يفسر كيف تتخذ أمريكا قراراتها حيال إعادة انتشار قواتها أو سحبها بشكل مفاجئ أو تقليصها دون سابق إنذار.
يا ترى هل نجحت الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط على مدى سبعة عقود تقريبا؟ ربما نقول في سياق الإجابة إن أمريكا قضت على الشيوعية، ولكنها استنبتت الإسلام السياسي، وما تفرخ عنه من تنظيمات إرهابية، وقضت على القاعدة ولكنها اضطرت إلى مصافحة طالبان التي جاءت قبل عشرين عاماً لإسقاطها، وأطاحت بصدام حسين ولكنها سلمت العراق للنظام الإيراني، وهزمت داعش، ولكنها أنتجت الحشد الشعبي وحزب الله العراق.
وفي ظل تمكين إيران من احتلال أربع عواصم عربية، وامتلاك المعرفة لصناعة أسلحة نووية، واعتمادها على الحشد الشعبي وحزب الله العراق، فإن السؤال عن مدى تهديد طهران والحشد الشعبي، وحزب الله العراق ولبنان، وأنصار الله، للمصالح الأمريكية قياساً بعراق صدام حسين والقاعدة وداعش؟
هذا العام أصدرت مؤسسة راند تقريراً بعنوان «إعادة تصور الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط» كتبه عدد من الباحثين يؤكد فشل الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط حيث لم تسفر عبر الإدارات المتعاقبة «عن نتائج إيجابية للمصالح الأمريكية أو للمنطقة».
وعلى الرغم من التطلعات الأمريكية «للابتعاد عن الشرق الأوسط بعد عقود من التدخلات المكلفة، فإن التحديات الناشئة من منطقة غارقة في عدم الاستقرار ستستمر في التأثير على المصالح الأمريكية».
المفكرون والباحثون السياسيون الأمريكيون يحاولون تقديم مقاربة جديدة للتعامل مع منطقة استعصت مشكلاتها على الحلول. ولا يبدو التفاؤل كبيراً في حلحلة مشاكل الشرق الأوسط بشكل نهائي، وإنما غاية الجهد الوصول إلى مستوى إدارة مشكلات المنطقة المزمنة.
يرى الباحثون في مؤسسة راند أن سياسة أمريكا قد تموضعت حول «التهديد» أو التهديدات، وكيفية القضاء عليها. ويرون أن فشل الاستراتيجية الأمريكية يستلزم الذهاب إلى الاتجاه المعاكس بحيث يتحول النهج من التركيز على «التهديد»، خاصة التهديد الإيراني، «إلى رؤية إيجابية للمنطقة» مدعومة بحضور مكثف للدبلوماسية، والاستثمارات الاقتصادية» بهدف «تقليص مصادر التطرف والمنافسة بين الدول إلى مستويات يمكن السيطرة عليها».
دول المنطقة ليست طرفا في صناعة الاستراتيجيات الأمريكية التي تستهدف الشرق الأوسط، ومع ذلك فهي اليوم مطالبة بأن تغير عقيدة العداء ومنطق التهديد إلى نهج يقوم على الحوار السياسي والاستثمار الاقتصادي، وبث الإيجابية. وبكل تأكيد فإن الإطار الزمني لهذه الاستراتيجية المعدلة سيتطلب عقودا عديدة لاختبار النتائج.
ومع هذا الانتقال الأمريكي من الضد إلى الضد تكون دول الشرق الأوسط أمام فرصة تاريخية لتعديل سياساتها بالتوازي مع التغير الذي قد يطرأ على السياسات الأمريكية، بل سيكون من الأفيد لها أن تسبق أمريكا بخطوة، وأن تجرب التفاهم بدل العداء المستحكم، والحوار نيابة عن التراشق العسكري والإعلامي.
المتغير اليوم أن القوتين المتوازيتين التي بنت عليهما أمريكا استراتيجيتها في احتواء التهديد السوفيتي وهما السعودية وإيران الشاه قد تبدل وضعهما، فقد خرجت إيران إلى المعسكر المعادي، ودخلت إسرائيل حليفا وحيدا لأمريكا في الشرق الأوسط خارج الناتو، كما دخل لاعبون جدد طبعوا مع إسرائيل وترغب أمريكا في مكافأتهم بأسلحة نوعية لا تتوفر لأصدقاء أمريكا الآخرين. فكيف سيكون وضع الحلفاء والأصدقاء وحلفاء الحلفاء في استراتيجية الإيجابية الأمريكية.