م. بدر بن ناصر الحمدان
تمثل مسافة الطريق بين المنزل والمسجد أهم محاور حركة المشاة داخل الحي السكني، وذات الوزن النسبي الأعلى في معدلات أنسنة المكان نظراً لارتباطها المباشر بنشاط الإنسان اليومي، وعطفاً على روحانيتها وفضلها وآدابها التي وردت في أكثر من موضع من أحاديث رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مثل حديث: «بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وحديث: «أَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ»، وحديث: «إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ أَجْرًا فِي الصَّلاةِ أَبْعَدُهُمْ إِلَيْهَا مَمْشًى فَأَبْعَدُهُمْ»، وحديث: «مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ كَانَتْ خَطْوَتَاهُ إِحْدَاهُمَا تَحُطُّ خطيئة والأخرى تَرْفَعُ دَرَجَةً»، وحديث: «مَن غَدَا إلى المَسْجِدِ ورَاحَ، أعَدَّ اللَّهُ له نُزُلَهُ مِنَ الجَنَّةِ كُلَّما غَدَا أوْ رَاحَ»، وغيرها من الأحاديث والسنن.
هذه المبادئ الإنسانية الربانية والتوجيهات السلوكية النبوية في حياة الفرد المسلم عن فضل المشي إلى الصلاة داخل الحي السكني ومردودها المعنوي كثقافة إسلامية لها دلالات كبيرة وعمق عمراني فريد بحاجة إلى تأمل ودراسة وتحليل بهدف توظيفه في بناء وتطبيق معايير التخطيط والتصميم العمراني، ولما يمثله المسجد من مقصد رئيس ومتكرر لدى السكان.
فإذا افترضنا أن عدد أيام السنة 365 يوماً، بمعدل خمس صلوات مفروضة يومياً فإنه سيكون لدينا 1825 رحلة ذهاب إلى المسجد و1825 رحلة عودة من المسجد، أي ما مجموعه 3650 رحلة سنوياً مشياً على الأقدام، وإذا ما كانت المعايير التخطيطية (نطاق الخدمة) للمسافة هي 275م للمسجد المحلي، ومسافة 550م للمسجد الجامع، وفي حال كان متوسط المسافة بشكل عام 412م فإن مجموع مسافة المشي التي سيقطعها الإنسان بين منزله والمسجد هي 4120 متراً يومياً، ومسافة 1503 كيلومترات سنوياً (تقريباً).
مثل هذا المعدل جدير بالاهتمام، لجعل هذه المسافة التي تتطلب السكينة والوقار مسافة «مؤنسنة» يُراعى فيها الحد الأدنى من معايير تصميم شبكة المشاة ومتطلباتها التشغيلية، كما أنها ستشكل مع مرور الوقت مكان جذب وملتقى لسكان الخلايا السكنية التي تقع في نفس الاتجاه عند التقاء أفرادها ومرافقتهم لبعضهم في الذهاب والعودة من وإلى المسجد، وكذلك كونها مسلكاً آمناً للأطفال واليافعين لتشجيعهم على بناء رحلات بمفردهم، وارتياد المسجد من منازلهم من خلال مسارات آمنة، وتعويدهم على الاندماج مع المجتمع في الأماكن العامة.
نعلم كمتخصصين مدى الصعوبة والتحديات في تكييف الوضع الراهن للمدن المبنية مع منظومة شبكة مشاة مستحدثة منفصلة او مرادفة لشبكة السيارات، لكن الأمر لا يمنع أبداً من المحاولة وإطلاق مبادرة تُعنى بتهيئة تلك المسافة الروحانية، فالأحياء التي تضع المسجد نواة لها، ستكون الأقرب لتحقيق أنسنة المكان.