تُعد رحلة التركي/ أوليا جلبي عام (1081هـ) إلى الحجاز من الرحلات الجميلة، فهي تحكي عن فترة مهمة من التاريخ والأحداث وكيفية مسير الحجاج من تركيا والبلقاء وإيران، حيث كان جَلَبي من المولعين بالرحلات في أقطار هذا العالم الفسيح، فقد بدأ بتدوين ما يراه منذ أن كان عمره عشرين عاماً حينما كتب عن مدينة استانبول عام (1040هـ)، وسافر إلى مناطق عدة، منها: تركيا، والبوسنة، والنمسا، وهولندا، والسويد وغيرها من البقاع، وساهم ذلك في تحصيله العلمي الذي كان من خلاله أنه أجاد ثلاث لغات وهي (العربية والفارسية والتركية)، وكان في ذات الوقت ماهراً في فنون أخرى مثل: (الخط والنقش والموسيقى وكتابة الشعر).
فحينما انطلقت رحلة الحج من تركيا وساروا حتى بلغوا (نهر الحور)، وتحدث عن هطول الأمطار الغزيرة التي تحوّلت إلى سيول مع تساقط الثلج، حيث نفق في هذا الموقف ما يقارب 200 جملاً، ومات 80 بدوياً، ذلك أن المطر بلغ إلى منتصف أرجل الجِمال.
ولما وصلوا صحراء بلقاء هطلت أمطارٌ غزيرة وثلوج مرة أخرى، وفي عُرف أهل الشام أن صحراء بلقاء لا يمكن دخولها أثناء تساقط الأمطار، فمن دخلها فُقد، واستمر المطر حتى الصباح وما أصبحوا إلا وهم في وسط بحيرة كبيرة جراء نزول المطر المتواصل، حيث نفَقَت بعض الحيوانات ومات بعض الحُجّاج.
رغم ما تعرضوا له من شدائد ومواجهة قطّاع الطُرق إلا أنهم وصلوا المدينة المنورة بسلامٍ، فاستبشروا بذلك الوصول الميمون، فقد استقبلهم أهل المدينة بالترحاب والتهنئة واستقبلوهم بالزغاريد والأهازيج الدينية، وأطلقت المدفعية 80 طلقة إيذاناً بدخول الموكب المدينة المنوّرة.
من مميزات رحلة جلبي أنه يأتي على وصف كل ما يراه وصفاً دقيقاً، حيث وصف المدينة المنورة مع ذكر أسماء الأبواب المؤدّية لها، والمسافات بين معالمها وأبراجها ويتحدث عن التوسعات المتعاقبة للمسجد النبوي وما يحويه من سجّاد وزخارف ومآذن وعدد الأعمدة والقناديل وعدد الخدم والطواويش الذين بلغوا (1400 شخص)، ولا يخفى عليه أن يصف القبّة التي على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما تحويه من زخارف ونحوها، حيث تشرّف بالدخول إلى المقصورة.
ثم يصف زيارته للبقيع وما يحويه من قبور الصحابة وأهل البيت الطاهرين، فقد وصف كل قبّة وما تحتها من المدفونين وصفاً دقيقاً، وكذا وصف بقية المعالم التي زارها كمسجد قباء ومسجد القبلتين ومقبرة شهداء أحد رضوان الله تعالى عليهم.
بعد انقضاء الزيارة توجهوا إلى مكة المكرّمة لأداء مناسك العمرة والحج، وقد ذكر كل المعالم التي مر بها، مثل: آبار علي، سبيل ميمونة بنت الحارث، وادي فاطمة، منزل مقام العمرة ... إلخ.
وصادف وجودهم في مكة تعيين الشريف بركات أميراً على مكة، وكيف احتفلت مكة ثلاثة أيام بتنصيبه، ولا يفوت المؤلف أن يصف الأسواق وما تحويه من سلع مختلفة تباع فيها، مثل: سوق العطّارين، وسوق الحسا = الأحساء، وسوق اللؤلؤ ... إلخ.
وكما كان جلبي مولعاً بكتابة أدق التفاصيل في المدينة المنورة، فقد كتب وصفاً دقيقاً عن مكة المكرمة من حدودها ووصف الحرم المكي وأبوابه وأعمدته وأماكن وجودها والقباب والمنارات والحمّامات، وتحدث عن صنع الكسوة في مصر على أيدي مهرة من أمهر الصنّاع في فن التطريز وصفاً سهلاً لا تعقيد فيه، وقد تطرّق إلى مواقع بيوت بعض الصحابة وأوصافها والعمارات الخيرية بمكة وعيون المياه والأسبلة والمدارس وكتاتيب الصِبيان ودُور قراءة القرآن الكريم والحديث الشريف.
رغم ما تتميز به رحلة أوليا جلبي من دقة في الوصف ودعم المشاهدات بالمعلومات التاريخية إلا أنه وقع في بعض الأخطاء كأن يقول أن غزوة أُحد كانت في قلعة فُديك بخيبر، وأن نزول آية تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة كان عام 14هـ (أي: بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم) وأن الإمام علياً أدار حرباً ضروساً مع معاوية حينما بلغ السادسة والثلاثين من عمره.. وغيرها مما لا تخفى على القارئ المطّلع على الأحداث التاريخية، وهي أخطاء يسيرة لا تؤثر على رحلةٍ فيها من التاريخ المهم عن معالم وأحداث مهمة في تلك الحقبة الزمنية.
** **
- بقلم: عبدالله بن علي الرستم