د.محمد بن عبدالرحمن البشر
الإسكندر الأكبر، أو ذو القرنين، الأغلب يعرفه، ويعرف مهارته العسكرية، وقد ولد في مقدونيا عام 356م، وكان والده فيليب هو ملك تلك الديار، بينما كانت معظم منطقة الأناضول والشام والعراق ومصر تحت السيطرة الفارسية، فيما كانت اليونان بجزرها المتناثرة وممالكها تنعم بحضارة مبنية على علوم الطبيعة والفلك، مثل فيثاغورس الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، والفيلسوف المشهور أفلاطون، ومن بعده تلميذه أرسطو الذي عاصر الإسكندر، وأصبح الإسكندر أحد تلاميذه من السنة الثالثة عشرة من عمره حتى السادسة عشرة، مع مجموعة من أصدقائه الذين أصبحوا فيما بعد أذرعة في حروبه التي لم تنقطع حتى وفاته.
تزوج والده بثماني زوجات، ووالدة الإسكندر هي الرابعة في الترتيب واسمها أولمبياس، وكثرت الأقاويل والأساطير حول ولادته، كما هي الحال في نسجها حول كل ذي شأن، فقيل إن «زيوس» إله السماء، وإله الآله عند اليونانيين، قد جامعها فولدت بهذا المولود الفذ، وقيل إنها أثناء زواجها من فيليب والد الإسكندر، قد استطاعت صاعقة أن تصيب رحمها، فخرج منها نار انتشرت في كل مكان، وقيل إن فيليب رأى في منامة بعد زواجه أنه يختم رحم زوجته بخاتم عليه صورة أسد، وذكر أنه عند بلوغه سن العاشرة أهدي إلى والده حصاناً عجز فيليب ومن معه ترويضه، لكن الفتى الصغير طلب من والده إبقائه ليروضه، ففعل وأعجب به والده، وبقي هذا الحصان رفيق دربه في حروبه، حتى توفى هذا الحصان لكبر سنه.
وقعت حوادث داخل البيت الملكي، فقد رغب الملك فيليب بالزواج من ابنة أخ أحد قادة الجيش واسمه «أتالوس» وهي تصغر الملك فيليب بكثير من السنين، واسمها «كليوبترا»، فخشى الإسكندر وأمه على أن تلد مولوداً يكون ولياً للعهد، لأن والدة الإسكندر غير مقدونية، فيكون المولود الجديد، ولي العهد الشرعي، وفي أثناء الحفل، الذي يتخلله شرب الخمر بشراهه صاح عم الزوجة الجديدة، طالباً من الحضور مناشدة الإله أن يمنحوا ابنة أخيه ولداً يكون ولياً للعهد، فما كان من الإسكندر إلاَّ أن قذف بالكأس في وجه الرجل وصاح قائلاً: هل أنا لقيط؟ فغضب الملك ونفى الإسكندر ووالدته إلى إحدى الجزر، لكنه رضي الله عنه فيما بعد، وأعاده، وفي أثناء مسيرة الملك فيليب الحضور زواج ابنته كيلوبترا على أخ والدة الإسكندر، قام أحد حراسه باغتياله.
تولى الإسكندر زمام الأمر، وتخلص بالقتل ممن يراه منافساً له سواء كان من البيت الملكي أو القادة، أما والدته فقد قتلت ضرتها الزوجة الأخيرة للملك فيليب، وابنتها وأحرقتهما بالنار، بينما قام الإسكندر بقتل عمها وقائد الجيش زاعماً أنه يتعاون مع الأعداء.
بدأ الإسكندر مسيرته الحربية بالاستيلاء على الجزر اليونانية، وكان لا يتعرض لمن استسلم وفتح أبواب المدينة، غير أنه يدمر ويسجن كل من يمتنع عن ذلك، وهذا ما فعله في إحدى الجزر، التي حاول حاكمها المقاومة، فأباده وجيشه وهدم كل معالمها.
عزم على أن يغزو الامبراطورية الفارسية المترامية الأطراف، وكانت سياسته تساعده في تيسير السيطرة على كل إقليم تطأ قدمه أرضه، لأنه يعفو عمن استسلم ويكرمه، بينما يسحق من عصى وامتنع، إضافة إلى ذلك أن الحكم الفارسي لتلك البلاد كان ظالماً، وكان الناس في لهفة إلى مخلص يخلصهم من جبروت الفرس وطغيانهم، ولهذا فبعد أن حاول الأمبراطور الفارسي الشاه دارا الثالث مقاومة الإسكندر، وجمع له جيشاً كبيراً، هزم وفر تاركاً والدته وأبنائه وزوجته أسرى في يد الإسكندر.
بعد هذا النصر بنى الإسكندر مدينته الإسكندرية وجعلها منطلقاً لحروبه مع المدن الشامية والفينيقية الواقعة تحت حكم الفرس، ففتحت له الأبواب، ما عدا مدينة صور، فقد رغب الإسكندر أن يقدم الذبائح للآلهة فأبى حاكم صور، لأنه يرى أن تلك الشعيرة من حقه فقط، فدخل المدينة عنوة، ودمرها وقتل وسبى، وأمسك بحاكمها وجره على عربتين متباعدتين حتى مات وهو ينزف دماً، وعندما وصل إلى مصر رحب به أهلها لشدة ما لاقوه من ظلم الفرس، فزار معبد أمون، فرحبوا به وقدم الذبائح.
سأتوقف هنا عن التوسع في سيرته وحروبه فهي طويلة جداً، لكن لعلنا نتوقف عن بعض النقاط لنذكر أنه لم يكن يحمل إيدولوجيا، أو دين، أو رؤية، أو فلسفة، أو فكر، يسعى لنشره، وإنما كان همه أن يكبر مملكته فحسب، وهذا أمر لا يعني شيئا في الحياة، وليس له مذاق، وأيضاً فقد دمر آثاراً وروائع تاريخية، كانت سجلاً تحفظ للبشرية تاريخ حضارتها، وتطورها العظيم، لا سيما في منطقتنا العربية العريقة، كما أن الظلم الذي مارسه الفرس ضد سكان المناطق التي استولوا عليها، سهلت أمر ظالم آخر، هو الإسكندر، لكنه ذكي في تعامله واحترامه لعبادات المناطق التي يدخلها لا سيما الشرق التي دأب منذ الأزل على العبادة كما هي في فينيقيا ومصر وغيرهما، وايضاً ترك مدناً سماها باسمه مثل اسكندرونه، والإسكندرية وغيرهما.
وبعد ذلك كله، الدمار، والظلم الذي أحله، مات وهو شاب، يبلغ الثانية والثلاثين، ربما بسبب إدمانه شرب الخمر، أو الأمراض الذي ربما أصابته أثناء انتقاله في عوالم مختلفة مثل الأناضول، والشام، ومصر، وفارس، والهند، وأفغانستان، وباكستان، وغيرها، وترك بلاده دون أن يورث ولداً فتقطعها قادته من بعده، وكانت مصر من نصيب بطلموس وبه بدأ عصر البطالمة، ولا بد لنا أن نذكر أن نعته بذي القرنين، أن كهنة آمون في مصر وضعوا على رأسه تاجاً له قرنا ثور من الذهب، كما أن حاكم الفرس يسمى ذا القرنين أيضاً.