د. محمد بن إبراهيم الملحم
سؤال ظريف أليس كذلك؟ وربما لم يخطر ببالك أن تسأله لنفسك يوماً ما... والحقيقة إنه يصعب الجزم بمن اخترع الواجب بيد أن هناك من يشير إلى وجوده منذ أيام الرومان حينما كان المتعلم يتدرب على مهارات الحديث والخطابة في المنزل ويستعد لذلك، فكان هذا نوع من الواجب المنزلي، ويذكر أن هذه الممارسة كان لها أثر إيجابي على التعلم والإتقان، كما يذكر علماء الآثار عن حضارات أخرى كالسومرية أن آثارها وضحت وجود تعليم في صورة مدرسة ومعلم وكان لديهم ما يمكن تسميته تمارين، قد تكون نوعًا من الواجب المنزلي ولكن ليس بشكله الحالي.
في العصر الحديث تدعي عدد من المقالات أن المعلم الإيطالي روبيرتو نيفيليس Roberto Nevilis هو أول من اخترع الواجب المنزلي، ويذكر أنه ابتدعه ليكون نوعًا من العقاب لطلابه المستهترين بالتعلم، ذكرت بعض المقالات أن التاريخ هو 1095م وبعضها الآخر ذكرت أنه عام 1905م، وعلى كلا الروايتين فهذا الادعاء غير صحيح لأنه بالنسبة للتاريخ الأول فإن التعليم النظامي وفكرة المدرسة لم تظهر إلا بعده بثمانمائة عام (قرابة 1845)، أما التاريخ الثاني فإن الواجب المنزلي كان قد وُجد قبل عام 1905 بكثير. وروبيرتو الإيطالي هذا ليس هو أول من أتى بفكرة الواجب المنزلي بل ظهرت بداياته في دولة ألمانيا المتحدة عندما كانت متحدة مع بروسيا على يد الفيلسوف الألماني جوهان قوتليب فيخت Johann Gottlieb Fichte والذي هو الأب الروحي للوطنية الألمانية، حيث كانت بروسيا في عام 1814 تسعى إلى حل مشكلة فقدان الانتماء الوطني لدى أفراد شعبها، فأتى جوهان بفكرة مدارس الشعب Volksschulen ومدتها تسع سنوات تعادل المرحلة الابتدائية والمتوسطة، وتهدف إلى إشغال المواطنين بعد فترة الحرب حيث لوحظ عدم اهتمامهم ببناء وطنهم، ولذلك ظهرت معها فكرة «الواجب المنزلي» كوسيلة تهدف أساساً لإثبات سلطة الدولة حتى أثناء الوقت الشخصي للأفراد، لتؤكد فكرة الوطنية المعطاءة من خلال هذا الأسلوب الجديد، وقد انتشرت الفكرة عبر أوروبا من هناك بتوظيفها إيجابياً لدعم التعلم وتعزيز ممارسة الطالب لما تعلمه بشكل فردي يقوي ثقته بنفسه في العمل منفردًا، ويشير الكتاب المهتمون بهذا الشأن أن بريطانيا تتسم بكونها أكثر الدول الأوروبية في كمية الواجبات المنزلية، وفي المقابل جدير بالذكر أن فنلندا وبعض الدول الأوروبية الأخرى لم تتأثر بهذه الظاهرة الألمانية، ويلاحظ أن هذا التوجه لا يزال إلى يومنا هذا، ومن الملفت أن فنلندا في مقدمة دول العالم تعليميًا ومع ذلك لم تتأثر بعدم اعترافها بالواجب المنزلي كأسلوب تعليمي.
عالم الاجتماع الأمريكي النشط سياسيًا للإصلاح هوريس مان Horace Mann هو أب للتعليم العام حيث كافح حتى تحولت المدارس من صيغها غير المنظمة إلى صيغة رسمية منتظمة، وإمكانية شمولها لجميع الطلاب من أي فئة أو طبقة اجتماعية بمستوى الخدمة نفسها، كما دعم مفهوم المدرسة الجديد بفكرة أخرى أكثر أهمية وهي تدريب المعلمين، وفي بدايات نشاطه في هذا المجال كان قد زار بروسيا عام 1843 وشاهد التجربة الألمانية في مدارسها الرسمية العامة، فأعجب بها وأعجب معها بفكرة الواجب المنزلي فنقل ذلك كله إلى أمريكا: فكرة تعميم المدرسة للجميع وفكرة الواجب المنزلي، وقد انتشر الواجب المنزلي عالميًا وأخذ أبعادًا تربوية عند كثير من المطبقين، كما أنه في الوقت نفسه ظل مدار نقاش لدى عدد من التربويين إلى يومنا هذا بعلامة استفهام حول مدى جدواه أو الحاجة إليه، بل يعده بعضهم إرهاقًا للطالب لا نفع منه. ولهذا ظهرت حركات مناوئة له منذ نعومة أظفاره، سأتحدث عن ذلك في المقالة القادمة.
** **
- مدير عام تعليم سابقًا