د.عبدالرحيم محمود جاموس
يقول الله عز وجل في محكم التنزيل {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، ويقول عز وجل {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، ويقول عز وجل {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} إلى آخره من الآيات الكريمة التي يقرُّ فيها الخالق عز وجل سنة وفطرة الحداثة والتنوع والتعدد، والتغيير، والتدافع التي فطر الله عز وجل الكون عليها، بما فيه من تنوع وتعدد وتباين في المناخ والتضاريس والكائنات الحية من حيوان ونبات، ويأتي من بيننا من يدبون الصوت، ويعلون عقيرة المحافظة، ورفض الحداثة والتنوع والتعدد والتغيير والتحول، باسم الخوف على الدين وعلى العقيدة، التي تعهد الله في محكم التنزيل بحفظها في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
التحديث والحداثة ضرورتان تستقيمان مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها والخلق والكون فما هي مبررات الخائفين والمرتعدين من كل حديث وجديد، إنه قصور الفهم أولاً للدين وللتوجيه الإلهي، والمحافظة على القائم لما فيه من مصالح متحققة ثانياً، هما مبررات أولئك الذين يتصدون لكل حديث وجديد، ولكل محاولة للتغيير والتطوير والتطور في حياة الناس والمجتمع، ولا يرون ذاتهم ومصالحهم إلا في السكون والثبات وعدم التغيير، ولا يدركون أن ذلك يتنافى مع أبسط مفاهيم التوجيه الإلهي ويجتهدون في تطويع بعض الأحاديث الشريفة، والآيات الكريمة لتبرير مواقفهم السلبية من الحداثة والعلمية والتنوير، دون أن يدركوا أن دون ذلك يعني التكلس والتجمد والتخلف، عبر التاريخ القديم كان التوجيه الإلهي والخطاب السماوي والرسل والأنبياء هم قادة الحداثة والتغيير ونقل المجتمعات البشرية من حال إلى حال، وأن الخطاب الإلهي توقف بعد البعثة المحمدية ونزول القرآن الكريم واعتباره رسالة خاتمة وشاملة وناسخة لما سبقها من رسالات سماوية منها المعروف لدينا ومنها غير المعروف، حيث تم تثبيت العبودية لله الواحد الأحد، وتكليف العقل بكل ما سواها في مختلف شؤون الحياة والاكتفاء بما ورد من توجيهات عامة سلوكية وعقدية تنظم حياة البشر، تاركاً التفصيل للاحتياج وللعقل الناضج للقيام به، لقوله صلى الله عليه وسلم (أنتم أبصر بشؤون دنياكم).
في هذه المقالة وددت أن أطرح إشكالية الخوف من التغيير والحداثة والتجديد والتنوير والتطوير والعلمية، إنها ليست من الدين مطلقاً، وإنما تعبر عن مصلحة من هم مستفيدين من أي وضع قائم لذا يرفضون مبدأ التجديد والحداثة وما شابه ذلك لأنهم يعتقدون أن في ذلك الإطاحة بمصالحهم وبتسيدهم، مدعين أن هذا هو الوضع الأمثل وفق التوجيه الإلهي، وينصبون من أنفسهم وكلاء ومتحدثين باسم الذات الإلهية، وهنا تكمن روح النفعية والاستبداد وتبريرهما باسم الدين وباسم الله، والله والدين من ذلك براء، براءة الذئب من دم يوسف بن يعقوب عليهما السلام.
لا يمكن لأمة أن تنهض وأن تتقدم بالجمود والسكون، بل تفقد مبرر وجودها، لافتقادها للصلاح ومعاندتها فطرة الخالق في الخلق والكون، والذين يعيبون على أوروبا إنهاء حقبة القرون الوسطى قرون الحروب المقدسة والظلام حين كانت الكنيسة ورجال الدين المسيحي يتحكمون في كل شؤون الحياة الزمنية والأخروية إلى درجة بيع أراضي في الجنة، ومنح صكوك الغفران للمخطئين، وكأنهم يخطؤون عملية إنهاء استبداد هذا الكهنوت المنحرف أصلاً عن التوجيه الإلهي سواء في الإنجيل أو غيره من الكتب السماوية، تحت ادعاءات سقيمة أن العلمانية تعني مخالفة الدين، وفصله عن الدولة، ويقومون بعملية إسقاط على المجتمعات العربية ليبرروا رفضهم للحداثة والتغيير والتنوير والعلمانية، دون أية مقاربة علمية لواقع المجتمعات العربية الإسلامية مع واقع أوروبا القرون الوسطى، حيث أننا أمام واقعين مختلفين، فلا يوجد في الإسلام أيٍ من المفاهيم اللاهوتية المسيحية التي كانت سائدة ومستبدة في حياة البشر والدول في أوروبا القرون الوسطى، فالأخذ بالحداثة والتغيير والعلمية لدى المجتمعات الإسلامية واجبة وضرورة ومتوافقة مع ما جاء في الكتاب والسنة لدى المسلمين وليست متعارضة بأي شكل من الأشكال، بل إن الحداثة والتنوير والعلمانية الأوروبية إذا أردنا التأصيل لها، فهي مصدرها الثقافة العربية الإسلامية التي تأثر بها طلاب أوروبا حين كان العرب المسلمون قبل ثمانية قرون يتصدرون قمة الثقافة الإنسانية، وكان مثقفو أوروبا ممن تتلمذوا وتعلموا على يد العلماء العرب، سواء في الأندلس أو في المشرق العربي، وتأثروا بالنهضة الثقافية والفكرية والفلسفية التي كانت قد وصلت إليها بلاد العرب والمسلمين في مختلف الحقول والعلوم، وبما أرساه الإسلام من حرية ومكانة للفرد وللمجتمع ورفض لكل صور التخلف والاستبداد، لدرجة عندما وقع الصراع بين العلمانيين والكنيسة في أوروبا، كانت تطلق الكنيسة على العلمانيين وصف الرشديين نسبة إلى ابن رشد العالم والمفكر والفيلسوف العربي الذي أرسى قواعد المنهجية العلمية في البحث والتفكير.
فلما الخوف من الحداثة والتحديث والتحول والتغيير، إن رفض الحداثة والتحديث بحجة الخوف على الدين والعقيدة وفصل الدين عن الحياة خوفٌ غير مبرر وفي غير محله، إنه تبرير لاستمرار الاستبداد والتخلف ورفض الأخذ بالأسباب الواجبة للنهوض والنمو والتقدم، لأن ذلك يهدد مصالح ونفوذ الفئات المستفيدة من استمرار الوضع القائم، وبالتالي تتقدم الأمم التي تأخذ بأسباب التقدم حتى وهي كافرة ولا تدين بأي دين، سوى أنها التزمت العدل والمساواة أولاً ثم اعملت العقل والفكر وأخذت عن غيرها من الأمم أفضل ما لديهم وانطلقت لديها مسيرة التطور والتقدم والنهوض، ومجتمعاتنا المسلمة بقيت تراوح مكانها وتتحول إلى عبء على تلك الأمم الناهضة والمتطورة في كل مناحي الحياة، وتبقى تابعة ومستلبة للآخر، وتدعي الصلاح والفلاح وهي أبعد ما تكون عن هذين المفهومين، بل هي في ذيل قائمة الدول والمجتمعات.
إن محاربة الحداثة والتغيير والتحول هي جريمة ترتكب في حق المجتمعات باسم الدين والدين منها براء.
لقد آن الأوان للمجتمعات العربية والإسلامية أن تواجه فوبيا الحداثة والتجديد وأن تنطلق نحو تحديث كل مناحي الحياة وإعداد النشء على التفكير وإمعان العقل وتوظيفه في فهم كل الظواهر الطبيعية والإنسانية، كي تعد جيلاً قادراً على مواكبة روح العصر وأن يكون جديراً بالمنافسة في مسيرة البناء والتطور والتقدم الذي يشهده العالم، وكسر القيود التي حالت دون تقدم هذه المجتمعات وهي قيود لا علاقة لها بالدين إنما هي من إنتاج أصحاب المصالح المستفيدين من استمرار التأخر والتخلف للمجتمعات والبلاد العربية والإسلامية سواء منها قوى داخلية تلاقت مصالحها مع قوى خارجية في إبقاء أوضاع العرب دون تجديد، ترزح وتئن تحت وطأة شروط التأخر والتخلف ومحاربة كافة مفاهيم وشروط التقدم باسم الدين.
لا شك أن العالم العربي يشهد صراعاً حقيقياً بين قوى الحداثة والتغيير وبين القوى المحافظة ورفض التغيير، تلك هي قوى الشد العكسي التي لا تسخر تفكيرها في الواقع والحاضر والمستقبل الذي نعيشه أو ننتظره وإنما ترجئ النظر دائماً إلى الوراء إلى الماضي، لإعادة استنساخه وتصويره كنموذج يحتذى به، في حين قد تجاوزه الواقع ولم يكن أصلاً صالحاً أو ناجحاً دائماً في زمانه، كان له نجاحات مهمة وكانت له إخفاقات مهدت إلى ما نحن عليه اليوم، يجب أن يقتصر النظر إلى الماضي التاريخي لأخذ العبر منه وليس لاستنساخه وإعادة إنتاجه.
يجب أن يجتهد مفكرونا في الواقع الذي نعيش فيه وفي إشكالياته الحالية والمستقبلية كي يبنى على التفكر والتعقل والتغيير والتجديد وخوض غمار الحداثة والتطوير من أوسع الأبواب ورفض كافة الأفكار السلبية عن الحداثة والتغيير باسم الدين أو غيره لأن الدين والفطرة هي مع التجديد ومع الحداثة ومع التعارف وليس مع الخوف والتناكر والتنافر.
** **
عضو المجلس الوطني الفلسطيني - الرياض