د. تنيضب الفايدي
مكة من الأسماء التي وردت في القرآن الكريم قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} سورة الفتح الآية (24).. وهو الاسم الأشهر بين جميع الأسماء.
وفي تسمية مكة بهذا الاسم أربعة أقوال:
أحدها: إنها مسافة يأتوها الناس من كل فج عميق، فكأنها هي التي تجذبهم إليها، من قول العرب أمتك الفصيل ما في ضرع أمه.
الثاني: من قولهم مككت الرجل إذا أردت تخوفه فكأنها تمكك من ظلم فيها أي تهلكة، كما قال:
يا مكة الفاجر مكي مكا
ولا تمكي مذحجاً وعكا
الثالث: إنها سميت بذلك لجهد أهلها، والرابع لقلة الماء بها، وقد اتفق العلماء أن مكة اسم لجميع البلدة.
وقيل: إن مكة مأخوذة من المُكاكَةِ، هي اللبُّ والمُخُّ الذي في وسط العظم، سميتْ بها؛ لأنها وسط الدنيا ولبُّها وخالصها. قال الحموي: «قال الشرقي بن القطامي إنما سميت مكة؛ لأن العرب في الجاهلية كانت تقول لا يتم حجنا حتى نأتي مكان الكعبة فنمك فيه أي نصفر صغير المكاء حول الكعبة، وكانوا يصفرون ويصفقون بأيديهم إذا طافوا بها، والمكاء بتشديد الكاف طائر يأوي الرياض.
يقول النفسي في تفسير هذه الآية: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} أي: أيدي أهل مكة و{أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} عن أهل مكة يعني قضى بينهم وبينكم المكافة والمحاجزة بعدما حولكم الظفر عليهم والغلبة وذلك يوم الفتح. وقيل كان في غزوة الحديبية لما روى أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هزمه وأدخله حيطان مكة، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أظهر المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت {بِبَطْنِ مَكَّةَ} أي: بمكة أو بالحديبية لأن بعضهم منسوب إلى الحرم. {مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} أي: أقدركم وسلطكم {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}».
ويقول ابن كثير -رحمه الله- عن هذه الآية: «هذا امتنان من الله تعالى على عباده المؤمنين حين كف أيدي المشركين عنهم فلم يصل إليهم منهم سوء وكف أيدي المؤمنين عن المشركين فلم يقاتلوهم عند المسجد الحرام، بل صان كلا الفريقين وأوجد بينهم صلحاً فيه خيرة للمؤمنين وعافية في الدنيا والآخرة، وفي حديث سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- حين جاءوا بأولئك السبعين الأسارى فأوثقوهم بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنظر إليهم فقال: «أرسلوهم ليكن لهم بدء الفجور وثناؤه، قال: وفي ذلك أنزل الله -عز وجل- {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم} الآية. وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حماد عن ثابت عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: لما كان يوم الحديبية هبط على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ثمانون رجلاً من أهل مكة بالسلاح من قبل جبل التنعيم يريدون غرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدعا عليهم فأخذوا، قال عفان: فعفا عنهم ونزلت هذه الآية {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} رواه مسلم وأبو داود في سننه. وقال أحمد أيضاً حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا الحسين بن واقد، حدثنا ثابت البناني عن عبدالله بن مغفل المدني -رضي الله عنهما- قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن، وكان يقع من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وسهيل بن عمرو بين يديه فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعلي -رضي الله عنه-: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم: فأخذ سهيل بيده وقال: ما نعرف الرحمن الرحيم: اكتب في قضيتنا ما نعرف فقال: اكتب باسمك اللهم، وكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة، فأمسك سهيل بن عمرو بيده، وقال: لقد ظلمناك إن كنت رسوله، اكتب في قضيتنا ما نعرف فقال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله، فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شاباً عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأخذ الله بأسماعهم فقمنا إليهم فأخذناهم فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هل جئتم في عهد أحد؟ أو هل جعل لكم أحد أماناً؟ فقالوا: لا، فخلى سبيلهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية. رواه النائي.
يقول الطبري في تفسيره: «يقول تعالى ذكره لرسوله -صلى الله عليه وسلم- (والذين بايعوا بيعة الرضوان): {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} يعني: أن الله كف أيدي المشركين الذين كانوا خرجوا على عسكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالحديبية يلتمسون غرتهم ليصيبوا منهم، فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتي بهم أسرى، فخلى عنهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومنّ عليهم ولم يقتلهم فقال الله للمؤمنين: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ}.
بكة
كما ورد بالباء أي: (بكة) وذلك في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ}، وهو مرادفٌ لمكة، وهذا من أشهر أسماء مكة، وفي الكتب السماوية الأخرى وردت بنفس الاسم، ففي مزامير داود: «عابرين في وادي البكاء (بكة) يصيرونه ينبوعا». وقيل: بكة موضع بالبيت، ومكة سائر البلد، وقيل: هما اسم البلدة والباء والميم يتعاقبان، وسميت بكة؛ لأنها تبُكُّ أعناق الجبابرة أي: لها، وقيل: لأن الناس يبُكُّ بعضهم بعضاً في الطواف أي: يزحَم ويدفع. وعن عبدالله بن الزبير قال: إنما سميت بكة؛ لأن الناس يجيئون إليها من كل جانب حجاجاً.
وقيل: تسمى بكة؛ لأنها تبك أعناق البغايا إذا بغوا فيها، والجبابرة. وقيل: لأنها في بطن واد تمكك الماء من جبالها عند نزول المطر وتنجذب إليها السيول.
وجاء في كتاب تاريخ دمشق: «عن محمد عبدالمنعم عن أبيه عن وهب قال: أوحى الله تبارك وتعالى إلى آدم عليه السلام: أنا الله ذو بكة أهلها جيرتي وزوارها وفدي وأضيافي وفي كنفي أعمره بأهل السماء والأرض يأتونه أفواجاً شعثاً غبراً يعجون بالتكبير عجيجاً ويرجون بالتكبير رجيجاً ويثجون بالبكاء ثجيجاً فمن اعتمده لا يريد غيره فقد زارني وضافني ووفد إلي ونزل بي وحق لي أن أتحفه بكرامتي وأجعل ذلك البيت وذكره وشرفه ومجده وسناه لنبي من ولدك يقال له إبراهيم أرفع له قواعده وأقضي على يديه عمارته وأنيط له سقايته وأورثه حله وحرمه وأعلمه مشاعره ثم تعتمره الأمم والدول حتى ينتهي إلى نبي من ولدك يقال له محمد وهو خاتم النبيين وأجعله من سكانه وولاته وحجابه وسقاته، فمن سأل عني يومئذ فأنا مع الشعث الغبر الموفين بنذورهم المنقلبين إلى ربهم.
واختلفوا في تسميتها ببكة على ثلاثة أقوال:
أحدها: لازدحام الناس بها، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة والفراء، ومقاتل.
والثاني: لأنها تبكّ أعناق الجبابرة، أي: تدقها، فلم يقصدها جبارٌ إلا قصمه الله، روي عن عبدالله ابن الزبير، وذكره الزجاج.
الثالث: لأنها تضع من نخوة المتجبرين، يقال: بككت الرجل، أي: وضعت منه، ورددت نخوته، قاله أبو عبدالرحمن اليزيدي، وقطرُب.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: «يخبر الله تعالى أن أول بيت وضع للناس أي: لعموم الناس لعبادتهم ونسكهم يطوفون به يصلون به ويعتكفون عنده {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} يعني الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل عليه السلام الذي يزعم كل من طائفتي النصارى واليهود أنهم على دينه ومنهجه ولا يحجون إلى البيت الذي بناه عن أمر الله له في ذلك ونادى الناس إلى حجه. ولهذا قال تعالى {مُبَارَكًا} أي: وضع مباركاً، {وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ}، وقد قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أي، قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة. قلتُ: ثم أي قال: ثم حيث أدركتك الصلاة فصل فكلها مسجد». رواه البخاري ومسلم.
وقال النسفي: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} والواضع هو الله -عز وجل- ومعنى وضع الله بيتاً للناس أنه جعله متعبداً لهم فكأنه قال: إن أول متعبد للناس الكعبة، وفي الحديث إن المسجد الحرام وضع قبل بيت المقدس بأربعين سنة، قيل: أول من بناء إبراهيم وقيل: وهو أول بيت حج بعد الطوفان، وقيل: هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض، وقيل: هو أول بيت بناه آدم عليه السلام في الأرض. وقوله {وُضِعَ لِلنَّاسِ} في موضع جر صفة لبيت والخبر {لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} أي: للبيت الذي ببكة، وهي علم للبلد الحرام ومكة وبكة لغتان فيه، وقيل: مكة البلد وبكة موضع المسجد، وقيل: اشتقاقها من بكة إذا زحمه لازدحام الناس فيها، أو لأنها تبك أعناق الجبابرة أي: تدقها لم يقصدها جبار إلا قصمه الله. {مُبَارَكًا} كثير الخير لما يحصل للحجاج والمعتمرين من الثواب وتكفير السيئات. {وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} لأنه قبلتهم ومتعبدهم، و{مُبَارَكًا وَهُدًى} حالان من الضمير في وضع (فيه آيات بينات) علامات واضحات لا تلتبس على أحد {مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ} عطف بيان لقوله آيات بينات، وصح بيان الجماعة بالواحد؛ لأنه وحده بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله تعالى ونبوة إبراهيم عليه السلام من تأثير قدمه في حجر صلد أو لاشتماله على آيات؛ لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية لإبراهيم خاصة على أن {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} عطف بيان لآيات -وإن كان جملة ابتدائية أو شرطية- من حيث المعنى؛ لأنه يدل على أمن داخله فكأنه قيل فيه آيات بينات مقام لإبراهيم وأمن داخله والاثنان في معنى الجمع، ويجوز أن يذكر هاتان الآيتان ويطوى ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات، كأنه قيل فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن داخله كثير سواهما نحو انمحاق الأحجار مع كثرة الرماة وامتناع الطير من العلو عليه وغير ذلك ونحوه».
يقول القرطبي: فيه خمس مسائل:
الأولى: ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أول مسجد وضع في الأرض قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون عاماً.
الثانية: قوله تعالى: {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} خبر «إن» واللام توكيد. وبكة موضع البيت، ومكة سائر البلد قال مجاهد: بكة هي مكة. فالميم على هذا مبدلة من الباء; كما قالوا: طين لازب ولازم. وقاله الضحاك: ثم قيل: بكة مشتقة من البك وهو الازدحام. تباك القوم ازدحموا. وسميت بكة لازدحام الناس في موضع طوافهم. والبك: دق العنق. وقيل: سميت بذلك لأنها كانت تدق رقاب الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم. قال عبدالله بن الزبير: لم يقصدها جبار قط بسوء إلا وقصه الله -عز وجل-. وأما مكة فقيل إنها سميت بذلك لقلة مائها، وقيل: سميت بذلك لأنها تمك المخ من العظم مما ينال قاصدها من المشقة; من قولهم: مككت العظم إذا أخرجت ما فيه. ومك الفصيل ضرع أمه وامتكه إذا امتص كل ما فيه من اللبن وشربه ; قال الشاعر: مكت فلم تبق في أجوافها دررا
وقيل: سميت بذلك لأنها تمك من ظلم فيها، أي تهلكه وتنقصه. وقيل: سميت بذلك؛ لأن الناس كانوا يمكون ويضحكون فيها; من قوله: وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية: أي تصفيقا وتصفيرا. وهذا لا يوجبه التصريف; لأن «مكة» ثنائي مضاعف و»مكاء» ثلاثي معتل.
الثالثة: قوله تعالى: {مُبَارَكًا} جعله مباركا لتضاعف العمل فيه; فالبركة كثرة الخير، ونصب على الحال من المضمر في (وضع) أو بالظرف من بكة، المعنى الذي استقر ببكة مباركا ويجوز في غير القرآن (مبارك); على أن يكون خبرا ثانيا، أو على البدل من الذي، أو على إضمار مبتدأ.
الرابعة: قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ}رفع بالابتداء أو بالصفة. وقرأ أهل مكة وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير «آية بينة» على التوحيد، يعني مقام إبراهيم وحده، قالوا: أثر قدميه في المقام آية بينة وفسر مجاهد مقام إبراهيم بالحرم كله، فذهب إلى أن من آياته الصفا والمروة والركن والمقام. والباقون بالجمع.
أرادوا مقام إبراهيم والحجر الأسود والحطيم وزمزم والمشاعر كلها.
الخامسة: قوله تعالى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} قال قتادة: ذلك أيضا من آيات الحرم. قال النحاس: وهو قول حسن; لأن الناس كانوا يتخطفون من حواليه، ولا يصل إليه جبار، وقد وصل إلى بيت المقدس وخرب، ولم يوصل إلى الحرم. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}.